وجهة نظر

مواسم الوعي: كيف ينضج إدراك الإنسان لمعنى التغيير عبر العمر؟ عبد الرزاق بن شريج

مقدمة

يُعدّ العمر أحد العوامل الحاسمة في تشكيل الوعي الاجتماعي والسياسي للأفراد، إذ يتداخل مع متغيرات أخرى مثل التجربة والتعليم والانتماء الطبقي والثقافي. فكل مرحلة عمرية تُنتج نوعًا مميزًا من الإدراك للمجتمع وللتغيير داخله. ومن ثمّ، فإن فهم مواقف الأفراد من التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية لا يكتمل دون استحضار البعد العمري الذي يُسهم في تفسير دينامية المواقف وتطورها عبر الزمن.

في هذا الإطار، تشير دراسات علم الاجتماع السياسي، مثل أعمال كارل مانهايم (Karl Mannheim) في مقاله الكلاسيكي “Problem of Generations” (1928)، إلى أن الانتماء الجيلي يُحدد طريقة الأفراد في إدراك العالم وفي التفاعل مع التغيير، إذ يتأثر كل جيل بالتجارب التاريخية التي عاشها خلال فترة تشكّل وعيه. أما علم النفس السياسي فيرى أن العمر يغيّر آليات الإدراك العاطفي والعقلاني للتغيير، بحيث تتراجع النزعة نحو المخاطرة مع التقدم في السن، ويزداد التعلق بالاستقرار والنظام (Inglehart, 1997; Krosnick & Alwin, 1989).

أولاً: الشباب والتطلع إلى التغيير

تمثل فئة الشباب المرحلة الأكثر انفتاحًا على الأفكار الجديدة، والأكثر حساسية إزاء مظاهر عدم المساواة أو غياب العدالة. وقد أظهرت دراسات عديدة، منها بحث رونالد إنغلهارت (Ronald Inglehart) حول “الثقافة ما بعد المادية”، أن الشباب يميلون إلى تبني قيم التحول الديمقراطي والحرية الفردية والإصلاح الاجتماعي أكثر من الأجيال الأكبر سنًا.

ويرجع ذلك إلى عدة أسباب نفسية واجتماعية:

الشباب يعيشون مرحلة بناء الهوية والسعي لإثبات الذات، مما يجعلهم أكثر ميلاً إلى القطيعة الرمزية مع القديم.

ضعف ارتباطهم بالمصالح الاقتصادية أو السياسية المستقرة يحررهم من الخوف من الخسارة.

تأثرهم الشديد بوسائل الإعلام والتواصل الرقمي يجعلهم أكثر انخراطًا في الثقافة العالمية للتغيير.

ولهذا، لا عجب أن تكون الفئة الشبابية هي الوقود الأساسي للحركات الاجتماعية والإصلاحية في مختلف أنحاء العالم.

ثانياً: النضج العمري بين الواقعية والطموح

مع بلوغ مرحلة النضج المهني والاجتماعي (منتصف العمر تقريبًا)، يتغيّر موقع الفرد في البنية الاجتماعية، فيصبح أكثر ارتباطًا بالمؤسسات، وأكثر إدراكًا لتعقيدات الواقع.

تُظهر دراسات علم النفس الاجتماعي أن الأشخاص في هذه المرحلة يميلون إلى التفكير البراغماتي، أي تقييم التغيير من زاوية المردودية والمخاطر، وليس من زاوية القيم أو المبادئ فقط.

فهم يدركون أن التغيير السياسي والاقتصادي لا يتحقق دفعة واحدة، وأن المحافظة على الاستقرار المؤسسي شرط ضروري لأي إصلاح ناجح.

ومن ثمّ، فإن مواقفهم غالبًا ما تكون توفيقية، تجمع بين الرغبة في التطوير والخوف من الاضطراب، وهو ما يفسر تفضيلهم للتدرج في الإصلاح بدل الثورات الجذرية.

ثالثاً: الكهولة والشيخوخة والدفاع عن الاستقرار

في مراحل الكهولة وما بعدها، يتجه الوعي السياسي والاجتماعي إلى تقدير قيمة النظام والاستقرار أكثر من التغيير السريع.

تفسّر دراسات مثل بحث بول بالتيك (Baltes, 1997) حول “الحكمة والتجربة العمرية” هذا الميل بكونه ناتجاً عن تراكم الخبرة والحنين إلى نماذج الحياة التي وفرت إحساساً بالانتماء واليقين.

يميل كبار السن إلى الدفاع عما يعتبرونه “التوازن الاجتماعي”، خشية أن يؤدي التغيير السريع إلى فقدان المعنى أو الهوية، أو انهيار منظومات القيم التي عاشوا في ظلها.

ومع ذلك، لا يعني هذا الانغلاق على الجديد، بل إن كبار السن كثيراً ما يشكلون مصدر حكمة نقدية تذكّر الأجيال الشابة بأهمية التدرج، والحذر من الانزلاق نحو الفوضى أو المغامرة السياسية.

رابعاً: العمر كمنظور لتحليل التغيير المجتمعي

إن العلاقة بين العمر وموقف الفرد من التغيير لا يمكن فهمها إلا في سياق التفاعل بين الأجيال. فكل مجتمع يعيش حالة مستمرة من التداول القيمي والمعرفي بين الشباب والكهول والمسنين.

ويذهب عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو (Pierre Bourdieu) إلى أن التغيير الاجتماعي الحقيقي يحدث عندما يتقاطع وعي الجيل الصاعد مع تحولات البنية الموضوعية للمجتمع، أي حين يلتقي الطموح الذاتي بالفرصة التاريخية.

وبالتالي، فإن المجتمعات التي تتيح حواراً بنّاءً بين الأجيال، وتُشرك مختلف الفئات العمرية في القرار السياسي والاقتصادي، تكون أقدر على تحقيق تغيير متوازن ومستدام. أما تلك التي تُقصي الشباب أو تُهمّش الكبار، فإنها تفقد التوازن الضروري بين الاندفاع والحكمة، وبين الرغبة في التجديد والحفاظ على الاستقرار.

على سبيل الختم

يتبيّن من التحليل أن العمر ليس مجرد محدد بيولوجي، بل هو مؤشر ثقافي ونفسي يؤثر في كيفية إدراك الأفراد للتغيير واستجابتهم له.

فالشباب يرون في التغيير أفقاً للتحرر والعدالة، والكهول يرونه مساراً ينبغي تدبيره بعقلانية، فيما ينظر إليه كبار السن بوصفه تهديداً محتملاً للنظام الرمزي والاجتماعي الذي اعتادوه.

ومن ثمّ، فإن إدارة التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية تتطلب مقاربة تشاركية عابرة للأجيال، تراعي هذا التنوع في المواقف، وتستثمره في بناء وعي جماعي متكامل يوازن بين الحلم والذاكرة، بين الاندفاع والحكمة، وبين الاستمرارية والتجديد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى