بقلم: حكيم السعودي
مقدمة:
في صميم كل مجتمع نابض بالحياة يكمن الشباب قلبه الذي يضخ الأمل والطاقة والتغيير. إنهم ليسوا مجرد أرقام أو إحصاءات في تقارير رسمية بل أرواح تبحث عن فضاء لتنمو فيه وعن أدوات لتبدع وتشارك وتؤثر. ومن بين هذه الفضاءات تبرز دار الشباب ليس كبناية من طوب وإسمنت بل كمفهوم ورؤية، كمختبر للحلم ومدرسة للمواطنة ومصنع للأمل. لقد وجدت دار الشباب يوما لتكون متنفسا للأجيال القادمة لتمكينهم من التعبير ولتطوير قدراتهم الفكرية والإبداعية ولترسيخ قيم الانتماء والمسؤولية. لكنها على مر السنوات وفي ظل غياب رؤية استراتيجية شاملة تحولت في كثير من الأحيان إلى مجرد قاعات فارغة وأدوات إدارية ومكانات تفتقد الروح والحياة. وهنا تظهر المفارقة: مكان وجد ليكون منارة للأمل، يتحول أحيانا إلى مرآة للقصور المؤسساتي والسياسي. هذه الدراسة هي محاولة لتسليط الضوء على دور دار الشباب في بناء الإنسان المواطن وتحليل المعوقات التي تحول دون تحقيق هذه الرسالة النبيلة، من ضعف الموارد إلى غياب الرؤية ومن القيود البيروقراطية إلى قصور السياسات العمومية. كما تهدف إلى تقديم رؤية فلسفية وتأملية لإعادة بناء هذه المؤسسات بحيث تصبح فضاءات حقيقية للتعلم والتجربة والابتكار والمواطنة الفاعلة حيث لا تقاس القيمة بالميزانيات والتقارير بل بالقدرة على إشعال الشرارة في عقول وقلوب الشباب.ان هذه الرحلة عبر صفحات هذا الكتاب التي تتوزع على خمسة عناوين ليست مجرد تحليل لواقع مؤسسات الشباب بل دعوة للتأمل في معنى الشباب والمواطنة والإبداع وفي كيفية تحويل البنايات إلى أماكن تنبض بالحياة وتحويل البرامج إلى تجارب تغذي العقل والروح وتصبح دار الشباب بذلك مصنع الأمل ومختبر الحلم لبناء مواطنة الغد.
دار الشباب.. من الفكرة إلى الأزمة
دار الشباب في أصل فكرتها الأولى لم تكن جدرانا صامتة ولا مكاتب تملؤها الملفات والغبار بل كانت كائنا حيا تنبض داخله أحلام الأجيال الأولى التي آمنت بأن بناء الإنسان هو المدخل الحقيقي لبناء الأوطان. وجدت هذه الفضاءات كتجسيد لفلسفة اجتماعية وتربوية أرادت أن تمنح الشباب فرصة للتعبير ومتنفسا يلتقي فيه الفكر بالموهبة والجدل بالحلم والمواطنة بالفعل الميداني. كانت دار الشباب رمزا للثقة في الجيل الجديد، علامة على إيمان الدولة والمجتمع بأن التنمية ليست رقما في ميزانية بل روح تغذى بالتربية والثقافة والمشارك لكن ما بين البدايات الحالمة والواقع الراهن مسافة طويلة تشبه الفاصل بين الحلم حين يولد والفكرة حين تختطف. فمع مرور العقود تراجعت الفلسفة الأولى وتحول الفضاء من مؤسسة لصناعة الإنسان إلى إدارة تنتج الوثائق. تآكلت القيم التي بنيت عليها هذه الدور وتسّل الروتين إلى روحها حتى صارت قاعاتها أشبه بذاكرة فقدت وظيفتها. حين كان الشاب يدخل دار الشباب في السبعينات والثمانينات كان يدخلها كما يدخل بيتا للمعنى يلتقي فيه أصدقاءه ليمارس المسرح والموسيقى والنقاش ويصنع ذاته خارج قوالب المدرسة والأسرة أما اليوم فكثير من الشباب لا يجد في هذه الدور سوى أبواب مغلقة وأثاث مهترئ وبرامج مكررة وكأن الزمن توقّف داخلها منذ عقود.
لم يكن هذا التراجع قدريا ولا مفاجئا. لقد تسربت البيروقراطية إلى روح المؤسسة كما يتسرب الصدأ إلى المعادن الثمينة. غاب المشروع الثقافي الكبير الذي كان يمنحها هويتها وغابت الأطر المؤهلة التي تفهم لغة الشباب وتعرف كيف تنصت إليهم. تحول المنشط إلى موظف مرهق وتحول الشاب إلى زائر عابر يبحث عن شيء لا يجده. وهكذا تلاشى المعنى في الزحام وصارت دار الشباب التي كانت حلما جماعيا مجرد مبنى في لوائح الممتلكات العمومية. في العمق يمكن القول إن دار الشباب ليست مجرد مؤسسة مهملة بل هي مرآة لخلل بنيوي في العلاقة بين الدولة والشباب. فعندما تغيب الثقة ويختزل العمل الثقافي في الأرقام والتقارير تفقد المؤسسات روحها وتتحول إلى أجساد بلا حياة. إن الشباب المغربي اليوم يعيش في عالم مختلف تماما عن ذلك الذي أُنشئت فيه دور الشباب. هو جيل رقمي يتنفس عبر الشاشات ويعبر بلغات متعددة ويبحث عن فضاء يمنحه الحرية أكثر مما يمنحه التعليمات. غير أن هذه الدور في كثير من الأحيان ما زالت تشتغل بعقلية القرن الماضي، بعناوين كبرى ولغات خشبية لا تصل إلى جوهر ما يريده الشاب من تفاعل وإبداع ومشاركة. لقد اختلطت الوظائف وتداخلت الأدوار فأصبحت دار الشباب بين مطرقة الضعف الإداري وسندان الإهمال المجتمعي. فهي ليست تابعة كليا للوزارة التي تمسك بميزانيتها ولا مندمجة فعليا في النسيج الجمعوي المحلي الذي يفترض أن يكون محركها. النتيجة أن الفضاء الذي كان يفترض أن يكون مختبرا للحياة الديمقراطية الصغيرة صار عاجزا حتى عن ضمان أبسط شروط الحياة المادية: قاعات مغلقة تجهيزات متهالكة ضعف في النظافة وغياب في التأطير. وكل ذلك يعكس أزمة رؤية قبل أن يكون أزمة موارد.
إن التأمل في مسار دار الشباب يكشف بوضوح أن ما ضاع ليس فقط المال أو البرامج بل الفلسفة التي كانت تؤطر وجودها. كانت دار الشباب في الأصل بيتا للفكر والمواطنة، فضاء للتجريب والتربية على الحرية والمسؤولية ولكنها اليوم تواجه خطر أن تتحول إلى ذكرى في الوجدان أكثر مما هي واقع في الحياة. لقد فشلت السياسات العمومية في أن تدرك أن التنشيط السوسيوثقافي ليس ترفا موسميا يمارس في المناسبات بل هو شرط أساسي لتوازن المجتمع ومؤشر على نضجه الثقافي. فحين يغيب هذا البعد تختزل مؤسسات الشباب في الشكل دون الجوهر، في الجدران دون الأفكار وفي الشعارات دون الأفعال. وهكذا نجد أنفسنا أمام مفارقة: مؤسسات تحمل اسم “دور الشباب” لكنها فارغة من الشباب نفسه. وبينما تشتغل الوزارات على صياغة التقارير وإطلاق المبادرات الورقية تستمر القاعات في الصمت والفراغ. إن ما يحدث اليوم ليس مجرد إهمال إداري بل هو إفلاس رمزي لمفهوم تأسس على الإيمان بالإنسان. فدار الشباب ليست قاعة للنشاط بل معمل لتشكيل الوعي الجمعي ومختبر لصناعة الأمل. لذلك فإن فقدانها لروحها يعني فقدان المجتمع لإحدى أهم آلياته في تربية مواطني الغد. لقد آن الأوان لأن نستعيد المعنى الذي ضاع وأن نعيد إلى هذه الدور روحها الأولى: أن تكون بيتا للحياة لا مكاتب للأوراق؛ أن تعود لتحتضن صوت الشاب الذي يريد أن يتحدث لا أن يلقن؛ وأن تصبح من جديد فضاء يعيد وصل الإنسان بحلمه ويعيد تعريف الوطن كفضاء مفتوح للانتماء لا كجدران مغلقة بالأوامر. فحين تفتح أبواب دار الشباب بحق لا تفتح فقط القاعات بل تفتح نوافذ الوطن على المستقبل.
المفارقة البنيوية.. بين النص والواقع
دار الشباب في أصل نشأتها لم تكن مجرد مبان من إسمنت وحديد ولا مجرد غرف مخصصة للأنشطة بل كانت فكرة اجتماعية وتربوية حية تجسد حلم الدولة في بناء الإنسان المواطن القادر على التفكير والمبادرة والمساهمة في صنع المستقبل. كانت هذه الفضاءات تمثل علامة فارقة على إيمان المجتمع بأن الشباب هو البذرة الأولى لمستقبل الأمة وأن الثقافة والفكر والعمل التطوعي أدوات حقيقية للتغيير والبناء. وعندما كان الشاب يدخل دار الشباب في العقود السابقة كان يدخل فضاء مفتوحا للتجربة، للنقاش، للإبداع ولصقل مهاراته الشخصية والاجتماعية بعيدا عن قيود المدرسة والأسرة. لكن مع مرور الزمن تبدلت المعادلة وتحولت هذه الدور من فضاءات للحياة الفكرية والاجتماعية إلى إدارات تستهلك الوقت في الأوراق والتقارير لتصبح البرامج شعارات دون مضمون والقاعات بلا روح والأفكار بلا متابعة. إذ لم تعد السياسات العمومية خلال العقدين الأخيرين تولي اهتمامً حقيقيا بالجانب الثقافي والتربوي في هذه المؤسسات ولم تفهم أن التنشيط السوسيوثقافي ليس ترفا موسميًا بل هو رافعة أساسية لتوازن المجتمع ومرآة لوعيه الجمعي.
في هذا السياق يواجه الشباب المغربي اليوم حزمة من التحديات المركبة بدءا من هشاشة اجتماعية متنامية، مرورا بالبطالة المتفاقمة وانتهاء بتراجع الإحساس بالانتماء والمشاركة في الشأن العام. وبينما كان من المفترض أن تصبح دور الشباب ملاذًا للحلم والإبداع فإنها في كثير من الأحيان صارت مرآة للفراغ والجمود الإداري. فالمؤسسات التي كانت يوما أماكن للتجربة والتفاعل الاجتماعي أصبحت اليوم مشغولة بالبيروقراطية وغائبة عن تلبية احتياجات الشباب الحقيقية. إن ما يحدث في هذه الدور لا يعكس نقصا في المباني أو التجهيزات فقط بل هو فشل في الرؤية التربوية والثقافية. فالشباب الحالي ليسوا أبناء زمن الماضي؛ إنهم جيل رقمي، متفاعل يبحث عن فضاءات تعكس اهتماماته وتفتح له المجال للإبداع والمبادرة ولا يمكن أن يخاطب بأدوات وخطابات قديمة. حين يفقد الفضاء القدرة على احتواء الشباب وتحفيزهم يتحول إلى مجرد قاعة فارغة وتصبح المؤسسة رمزا للقصور الإداري والسياسات العمومية غير المتفاعلة مع الواقع.وتتفاقم الأزمة مع غياب الأطر المؤهلة وانقسام المسؤوليات بين الإدارة المركزية والمجتمع المدني المحلي. فالمنشط غالبا ما يضطر للقيام بأدوار متعددة من التنشيط إلى الصيانة في حين يظل الشاب يبحث عن معنى ومكانة لم يعثر عليها. هذه المفارقة تجعل من دار الشباب مرآة للخلل البنيوي في العلاقة بين الدولة والشباب وتهدد الأدوار الرمزية التي وجدت من أجلها.
إن دار الشباب لم تفقد أهميتها فقط لأنها فقدت بعض التجهيزات بل لأنها فقدت روحها المشروع الثقافي الذي يمنحها هويتها والفلسفة التربوية التي كانت تقودها. فحين يختزل التنشيط في الأرقام والتقارير ويتراجع الاهتمام بالإنسان قبل المبنى تصبح الدور فارغة المعنى والجدران صامتة والشباب غائبين بالقلب والروح. وفي هذا السياق يصبح استرجاع هذه الفكرة الأصلية ضرورة حقيقية لإعادة بناء المؤسسات على أساس أن الشباب ليسوا مجرد مستقبل بل هم حاضر يتطلب حضوره ومشاركته وإبداعه داخل فضاءاته الخاصة.ومن هذا المنظور فإن إعادة الحياة إلى دار الشباب تعني استعادة الغاية التي وجدت من أجلها: أن تكون بيتا للحرية والفكر والمواطنة، فضاء يسمع فيه الشاب ويشارك ويختبر قدراته ويحلم، ويخطط ويبتكر بعيدا عن القيود البيروقراطية وروتين الإدارة. وعندما تفتح أبواب دار الشباب بحق لا تفتح مجرد القاعات بل تفتح نوافذ الوطن على المستقبل لتصبح منصة حقيقية لصناعة الإنسان الواعي، المواطن الفاعل والمبدع الذي يصنع غد المجتمع.
الإنسان قبل البناية.. حين يغيب المعنى
حين نفكر في دار الشباب اليوم يجب أن ندرك أن الأزمة ليست في الجدران أو الكراسي أو الأجهزة المتهالكة بل في غياب المعنى والروح التي تجعل المكان حاضنا للإنسان قبل أن يكون بناية. فالموارد المادية ضرورية لكنها ليست كافية لأن الأزمة الحقيقية تكمن في غياب الرؤية والفكر وفي عدم قدرة المؤسسة على التكيف مع متغيرات العصر. الشباب الذين يلجون هذه الفضاءات ليسوا شباب السبعينات أو الثمانينات بل هم أبناء عصر الرقمنة والذكاء الاصطناعي والعولمة الثقافية، فطرق تفكيرهم وأساليب تعلمهم واهتماماتهم مختلفة تماما. إن مخاطبتهم بخطاب التلقين أو برامج جاهزة لا تلائمهم يجعلهم متلقين سلبيين في حين أن الفضاء المفترض أن يكون مختبرا للحلم والإبداع يتحول إلى قاعة فارغة بلا صدى حيث يمر الوقت دون أثر. هم يحتاجون إلى لغة جديدة، تفاعلية، تجعلهم شركاء في العملية، مواطنين قادرين على التجريب والإبداع وأطرا تشاركهم المسؤولية لا تفرض عليهم واجبات شكلية. دار الشباب لا يجب أن تكون فقط مكانا للقاء بل منصة للحوار وساحة للابتكار ومختبرا للأمل. حين يغيب هذا البعد يجد الشباب أنفسهم مضطرين إلى البحث عن معنى خارج المؤسسات، في الشوارع ومواقع التواصل حيث تتسلل الأفكار السلبية والخطابات التطرفية إلى الفراغ الذي تركته القاعات الصامتة.
ان التحليل السوسيولوجي يؤكد أن المؤسسة عندما تفشل في احتواء الإنسان وإشراكه فإنها لا تفقد وظيفتها التربوية فحسب بل تترك فراغا يصبح أرضا خصبة لليأس واللامعنى وُضعف النسيج الاجتماعي. الإنسان قبل البناية والقيم قبل الجدران والروح قبل البرامج هي معادلة أساسية لإحياء دور دار الشباب. فعندما يعود المعنى يعود الحماس ويصبح المكان فضاء نابضا بالحياة حيث يتحول العمل الجمعوي إلى تجربة تعلمية والحلم إلى مشروع والفكرة إلى فعل ملموس. إن استعادة هذه الروح تتطلب إعادة النظر في كل الممارسات وبناء مشاريع ثقافية وتربوية تشرك الشباب في صياغتها وتنفيذها وتمكين الأطر من الحرية والقدرة على الابتكار بحيث يصبح الفضاء مؤسسة حية تصنع القادة والمواطنين الواعيين بدل أن يكون مجرد صدى لغياب الرؤية.
المتطوعون.. نبض الحياة في مؤسسات منهكة
رغم كل مظاهر الوهن والجمود ما تزال دور الشباب تنبض بالحياة بصمت المتطوعين وإخلاص الأطر الميدانية لا بفضل البرامج المركزية أو الشعارات الرسمية. فبرنامج “تنشيط مؤسسات الشباب” رغم الإعلان عنه كخطوة نوعية لإعادة الحيوية لهذه الفضاءات ظل في كثير من الحالات حبرا على ورق لا يترجم إلى فعل ميداني يلمسه الشاب أو الشابة حين يدخل القاعة الفارغة. لا توجد تكوينات فعلية ولا مشاريع ممولة ولا برامج لإدماج المتطوعين في صلب العمل المؤسسي. ما نراه غالبا هو تجميع للأرقام وإعداد التقارير التي تعكس النشاط فقط على الورق بينما الواقع يصرخ بصمت: القاعات فارغة، الحماس يتلاشى والفرص الحقيقية للشباب لا تتحقق. في هذا الصمت يظهر الفاعلون الجمعويون والأطر الميدانية والمديرون الذين يشتغلون بلا كلل. هم من يمنحون المكان روحه ومن يحول الجدران الصامتة إلى فضاءات للتعلم والحوار ومن يجعل الوقت الذي يقضيه الشباب في هذه الدور تجربة مفيدة وملهمة. هؤلاء هم النسيج الحي للمؤسسة، فهم يصنعون الحياة بقلوبهم قبل أن تصنعها الميزانيات وينثرون بذور الأمل في أرض تبدو خالية من الموارد.
الدرس المهم هنا أن دار الشباب ليست جدرانا وميزانية بل قلوب وعزيمة من يؤمنون بالعمل الجمعوي والتربية على المواطنة. مهما كانت القيود البيروقراطية والموارد محدودة فإن الإرادة الفردية والإخلاص المهني قادران على تحويل المكان إلى مختبر للحلم ومنصة لصناعة القيادة والإبداع. وهكذا يبقى الشباب مرتبطًا بالفضاء ليس بما تقدمه الوزارة بل بما يزرعه هؤلاء الذين لم يتوقفوا يوما عن الحلم والتجربة والعطاء. إن إدراك هذا الواقع هو الخطوة الأولى نحو إعادة الاعتبار لدور الشباب فهو يوضح أن المؤسسات الحقيقية لا تبنى بالقوانين واللوائح وحدها بل بالقلوب التي تؤمن أن الشباب يستحق أن يكونوا محور كل عمل ومبادرة. فالبرنامج المركزي قد يضع الأسس النظرية لكن النبض الحقيقي، هو نبض هؤلاء الذين يعملون بصمت ليبقى حلم الشباب حيا ورؤية المواطنة قادرة على النمو والإشعاع.
نحو دار شباب جديدة.. من الإدارة إلى المواطنة
لا يقتصر إصلاح دار الشباب على ترميم الجدران أو شراء التجهيزات، فالبناء المادي وحده لا يكفي لخلق فضاء ينبض بالحياة. إن الإصلاح الحقيقي يبدأ من إعادة الاعتبار للثقافة كقوة ناعمة وللتربية كرافعة للتنمية والوعي الاجتماعي. فالمكان الذي يسهم في بناء الإنسان الواعي والمواطن الفاعل هو أكثر من مجرد قاعات ومكاتب؛ هو روح تتغلغل في كل زاوية وتشعل فضاء من الحوار والإبداع والتجربة.
دار الشباب التي نحلم بها هي مدرسة للمواطنة وفضاء للحوار والاختلاف والتفكير الحر. فيها يتعلم الشاب كيف يختلف دون أن يعادي وكيف يشارك دون أن يقصي وكيف يحلم دون أن ينفصل عن واقعه. كل مبادرة جديدة، كل ورشة، كل لحظة نقاش صادقة هي بمثابة بذرة تزرع في أرض الوطن لتنمو وتثمر وعيا وإبداعا ومسؤولية. إن فتح أبواب دار الشباب للنقاش والإبداع لا يعني مجرد نشاط وقتي أو ترفيه موسمي بل هو فتح نوافذ الوطن على المستقبل. فمن خلال هذه المؤسسات الصغيرة يمكن أن تولد قادة ومواطنون قادرون على التغيير، على صنع قرارات واعية وعلى نقل قيم المواطنة الفاعلة إلى محيطهم الاجتماعي. الإصلاح الحقيقي يبدأ حين ندرك أن الشباب ليسوا المستقبل وحده بل هم الحاضر الذي منه يبدأ كل تحول حقيقي وأن الاستثمار فيهم هو استثمار في نسيج المجتمع كله. حين تتحول دار الشباب إلى مكان يحتضن الإنسان قبل الفكرة ويؤمن بالطاقات الفردية قبل الميزانيات حينها فقط يمكن أن نطلق عليها بحق: مصنع الأمل ومختبر الحلم وموطن الرؤية والمواطنة. فكل فكرة تطرح وكل مشروع ينجز وكل تجربة يخوضها الشاب داخل هذا الفضاء هي خطوة نحو وطن أفضل حيث يصبح الشباب ليسوا متلقين بل صانعي القرار ومبدعي التغيير وحملة مشعل الغد المشرق.
إن الحديث عن دار الشباب ليس مجرد وصف لمؤسسة أو نقد لتجربة إدارية بل هو تأمل في العلاقة بين الإنسان والمكان، بين الحلم والواقع، بين الفكرة والتنفيذ. فكل جدار وكل قاعة وكل ركن في دار الشباب يحمل إمكانية تحويل الحياة ويحتضن بذرة التغيير شرط أن يجد من يزرعها ويهتم بها. لقد تعلمنا من هذه الرحلة الفكرية أن المسألة ليست في البناية وحدها ولا في التجهيزات والميزانيات بل في الروح التي تنبض داخلها. الإنسان هو المحرك والشاب هو القلب والأطر الجمعوية المتفانية هم النبض الذي يعطي الحياة للمكان. حين يغيب المعنى تغيب الحياة وحين يحضر الوعي والإبداع تتحول المؤسسة إلى مصنع للأمل ومختبر للحلم وفضاء لتربية المواطن المسؤول والمبدع. إن دار الشباب بهذا المعنى ليست ملكا للإدارة أو مجرد صرح مادي بل هي قيمة ثقافية وفكرية وروحية، مكان يبنى فيه الإنسان قبل أن المكان ويكتسب فيه الشاب القدرة على التفكير والمشاركة والابتكار قبل أن يستخدم أي أداة أو برنامج. ومن هنا تصبح كل دار شباب مفتوحة على المستقبل ونافذة يطل منها الوطن على أجياله القادمة وفضاء يعلم الشباب كيف يحلمون ويعملون معا من أجل واقع أفضل. فالدرس الأهم الذي نخرج به هو أن الشباب هم الحاضر قبل المستقبل وأن بناء دار شباب حقيقية يعني بناء مجتمع واعٍ ومبدع وملتزم. وإن لم نعيد الاعتبار لهذه المؤسسات فإننا نخسر أكثر من قاعات فارغة وتجهيزات متهالكة؛ نخسر فرص الأجيال القادمة في أن يصبحوا صناع التغيير وحملة شعلة الوطن. إن دار الشباب التي نحلم بها ليست مجرد بناء بل مشروع وطني وروح حية، مصنع أمل ومختبر حلم ومدرسة للمواطنة الفاعلة حيث يتحول الحلم الفردي إلى فعل جماعي والإبداع الشخصي إلى مشروع وطني ينبض بالحياة. فلتكن أبوابها دوما مفتوحة ولتكن قلوبها مضاءة ولتظل نوافذها مشرعة على المستقبل الذي يستحقه كل شاب وشابة.