وجهة نظر

“هي التي تُقيم في القلب مقامًا “بقلم: هشام فرجي

من قال إن أجمل النساء هي تلك التي تُبهر العين بطلعتها، وتسرق الألباب بقوامها، وتخطف الأنفاس بابتسامتها؟ فالجمال برقٌ عابر، يخطف النظر لحظة، ثم يمضي إلى حيث لا يترك أثرًا. أما الحضور الذي يستوطن القلب، فهو بناء متين، لا تشيده فرشاة تجميل، وإنما تبنيه يدان مملوءتان حنانًا، وعقلٌ راجح، وروحٌ هادئة كنسيم الفجر.

فالرجل، مهما بدا قويًّا، يحمل في أعماقه صمتًا عميقًا لا تفهمه عيون امرأة عابرة،وإنما تفهمه الروح التي تجلس إلى جواره بهدوءٍ، وتسمعه دون أن يتكلم. فهو لا يفتح قلبه لوجهٍ جميل فقط،وإنما لامرأةٍ تعرف كيف تُقيم فيه مقامًا، وكيف تتسلل إلى مسام روحه كما يتسلل الضوء إلى غرفةٍ مغلقة، وكأنها خلقت لتكون في موضعها منه.

تدخل هذه المرأة  قلبه كما يدخل النسيم نافذةً نسيت مفتوحة في ليلة حالكة مظلمة، فتوقظ فيه الحنين، وتسكب السكينة في زوايا عمره المزدحم. حيث  يلمس حديثها أعماق قلبيه؛ فتطفئ نظرتها توتره؛ وتعيد ضحكتها لنفسه اتزانها كجرعة ضوءٍ في ليلٍ غيرك مقمر.

فهي من تشيّد في قلبه مقامها كما شيد ذو القرنين جداره بين أهل القرية ويأجوج ومأجوج؛ تسبك لبناته من حديد الوفاء، وتصب فوقها نحاس الحضور الصادق، فيتماسك البناء كما لم يتماسك قلبه من قبل. فترتفع لبنةً لبنة، حتى تغدو سوراً منيعاً، لا تنقبه الأيام، ولا تُزحزحه تقلبات العواطف. حيث تبنيه بصبرها، وتثبّته بودّها، وتُشيع فيه دفءَ المعاملة ورقة القول، حتى إذا اكتمل، غدا في قلبه جدارًا خالدًا، لا تبلّيه الفصول، ولا تنال منه نظرات العابرين… وكما حفظ الجدار القرية من فساد يأجوج ومأجوج، تحفظ هي قلبه من التيه والفراغ، فتغدو مقامًا لا يزول..

فالرجل يبحث عن امرأة تصير النور الذي يهتدي به. وليس عن نجمةٍ بعيدةٍ يحدّق فيها، وإنما عن قمرٍ هادئٍ يرافقه في لياليه يُنير له الطريق، وعن سكينةٍ تؤنس العمر كله، لا عن جمالٍ يثير الإعجاب لحظات عابرة ثم يخبو.

إنها تلك المرأة التي تفهمه قبل أن يتكلم، وتلمح ارتجافة الحرف في صوته، فترد بابتسامةٍ تمسح تعبه. وهي التي تترك في قلبه أثرًا لا يزول بوجودها الصادق معه وليس بكلمات كبيرة عابرة. بل هي التي تسكن معها عواصفه، وتعود رجولته سندًا وحضورًا وليس استعلاء، فيشتاق لأن يكون لها حصنًا، كما كانت له مأمنًا.

فلا تكون بذلك  الأجمل في المرآة، لكنها الأجمل في مرآة نفسه؛ وليست الأطول قامة، لكنها الأطول أثرًا؛ يكون حديثها همسا ناعما يرسخ في قلبه رسوخا أبديا. فتغدو تلك الشجرة التي تتجذر في روحه، ظلًا في قيظه، وثمرًا في صيفه، وجمالًا هادئًا في فصوله كلها.

فالجمال إذا يسرق النظر، أما الحضور الصادق فيسكن الروح. وما أغلى امرأةً تغدو في قلب رجل جدارًا لا تهدمه خطوب الدنيا، ومأوى لا تزيل ستره نوائب الحياة.إنها امرأة لا تحتاج إلى زينةٍ لتُبهره،وإنما  إلى قلبٍ لتسكنه، وروحٍ لتجاوره،فتصير هي الوطن… وهو السند.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى