وجهة نظر

في زمنٍ يضيق فيه العيش، وتشتدّ فيه وطأة الغلاء على كاهل البسطاء، تغدو الأمواج ملاذًا أخيرًا، وتتحول الحدود إلى حلمٍ يائسٍ بالخلاص.

حميد قاسمي-تنوير

حدث صباح يوم الأحد في مدينة الفنيدق ما يُجسّد مأساة الإنسان حين يُحاصره الفقر من كل جانب: أمٌّ ألقت بنفسها وطفلها الصغير، لم يتجاوز السادسة من عمره، في لجّة البحر، عسى أن تبلغ الضفة الأخرى من سبتة المحتلة، حيث يتوهّم الفقراء أنّ الحياة هناك أرحم من قسوة الوطن. مشهدٌ تقشعرّ له الأبدان، وتدمع له القلوب قبل العيون؛ أمٌّ تغامر بأغلى ما تملك، لتُهاجر من ضيق الأرض إلى اتساع المجهول.

تلك الصورة ليست حادثًا عابرًا، بل مرآةٌ عاريةٌ لحال أمةٍ أنهكها الفقر وبدّدها الغلاء، وأعياها الانتظار. يقول الأديب نجيب محفوظ: الفقر لا يصنع ثورة، بل يصنع لصوصًا ومنافقين. وإذا كان الفقر قد سلب الناس صبرهم، فإن الغلاء والجشع سلبهم كرامتهم. لقد تحوّل الخبز إلى ترف، والماء والكهرباء إلى عبء، والحلم إلى جريمة. وما إقدام تلك الأم على اقتحام البحر إلا صرخةٌ في وجه مجتمعٍ فقدَ إنسانيته.

قال الفيلسوف جان جاك روسو: عندما يجوع الشعب، لا يسأل عن الحرية بل عن الخبز. وهذا ما نراه اليوم في عيون بعض الأمهات اللواتي أرهقهنّ العوز وقِلة اليد، وفي وجوه الأطفال الذين ينامون على الطَّوى. لقد صار البحر أقرب إليهم من الأمل، والموت أهون من العيش في ذلّ الحاجة.

ولعلّ كلمات المفكر عبد الرحمن الكواكبي تجد اليوم صداها من جديد حين قال: الاستبداد أصل كل داء. فلو وُجد العدل لما جاعت أمّ، ولو حُكم بالضمير لما لجأ طفلٌ إلى الموج. أما تولستوي، فقد لخّص مأساة الفقر بقوله: المال قوة، والفقر عجز، وبين القوة والعجز تتحدّد إنسانيتنا.

أيُّ زمنٍ هذا الذي يدفع أمًّا لتغامر بفلذة كبدها في بحرٍ لا يرحم؟ ..

وأيُّ وطنٍ وأيُّ مجتمع هذا الذي لا يجد فيه الفقراء غير الموج سندًا، وغير الموت سبيلًا؟ ..

لقد نجا الجسد هذه المرّة، ولكن الروح غَرقت منذ زمنٍ بعيد في بحرٍ من الإهمال والخذلان.

ويبقى السؤال معلقًا في فضاء الوطن: متى نُدرك أن العدالة الاجتماعية ليست منّة، بل حقٌّ مقدّس؟

قال الفيلسوف المهاتما غاندي: الفقر هو أسوأ أشكال العنف. ونحن اليوم نرى هذا العنف يتجسّد في العيون الغائرة، وفي القلوب المكسورة، وفي كل أمٍّ تحمل طفلها نحو المجهول لأنها لم تجد في الوطن موطئ رحمة.
نجت الأم وطفلها بأعجوبة، لكننا لم ننجُ نحن من خزي السؤال. ومهما تعددت الأعذار، سيبقى البحر شاهدًا على أن في هذا الوطن من الفقر ما يكفي ليُغرِق الضمير قبل أن يُغرِق الجسد.

رحم الله الفقراء في صبرهم، ورزقنا الله مسؤولين يدركون أن الجوع لا يُطفَأ بالوعود، وأن البحر ليس طريق الخلاص، بل صدى الوجع حين يغيب العدل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى