افتتاحية

“البوليساريو” من لغة السلاح إلى مفردات الحوار: بحثٌ عن مخرج مشرّف

عزيز الحنبلي

تكشف قراءة هادئة لبيان «البوليساريو» الأخير عن تحوّلٍ لافت في الخطاب: فبدل لغة القطيعة و«الحسم بالسلاح»، يَغلب عليه اليوم قاموس «الحوار» و«التهدئة» و«إعادة بناء الثقة». ليس ذلك طرحًا سياسيًا مكتمل الأركان بقدر ما هو محاولة لتدبير لحظة تراجُع بأقلّ كلفةٍ ممكنة، بعد أن كرّس المسارُ الدبلوماسي المغربي واقعًا جديدًا على الأرض وفي المؤسسات الدولية.
تبدّل نبرة خطاب «البوليساريو» من الشِّعارات القصوى إلى واقعيةٍ حذِرة، بالانتقال من «الكفاح المسلح» و«تقرير المصير» كخيارٍ وحيد إلى الدعوة لـ«الانفتاح» و«الحلول العملية»، وهذا يعكس إدراكًا متزايدًا بانسداد رهاناتٍ قديمة. بل إنّ هذا التحوّل يبدو أقرب إلى إدارة خسائر منه إلى مبادرةٍ إرادية، بعدما أحكمت الدبلوماسية المغربية إغلاق منافذ المناورة وأعادت ضبط قواعد النقاش حول الملف.
البيان هو إعلانٌ للاستعداد لـ«السلام» عند لحظةِ هشاشةٍ سياسية ودبلوماسية يشي برغبةٍ في تأجيل الاعتراف بالتراجع، والبحث عن «مخرجٍ مشرّف» يُحافظ على الحدّ الأدنى من الصورة، أمام تراكمٍ مغربيٍّ رسّخ مبادرةَ الحكم الذاتي كحلٍّ واقعيٍّ وجدّيّ.

خصوصًا مع الدعمِ المتزايدِ للحكم الذاتي: تتجه العواصم المؤثرة إلى التعامل مع مبادرة الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية باعتبارها الإطارَ الأكثرَ جديةً وقابليةً للتطبيق.

فالمعطيات المتداولة في نيويورك تشير إلى أن مشروع قرارٍ تقوده الولايات المتحدة يعيد توجيه المفاوضات حول مبادرة الحكم الذاتي لعام 2007، مع احتمال تفويضٍ أقصر لبعثة المينورسو (ستة أشهر) لزيادة الزخم السياسي. وإذا تم اعتماد النص، فستكون تلك النقلةُ الدلالية التي انتظرَتها الرباط لسنوات: الخروجُ من الغموض وتنظيمُ العملية على أساس الحكم الذاتي، لا على سيناريوهاتٍ متقادمة. هذا المسار يمدّد ما أعلنته واشنطن منذ ربيع 2025: مفاوضاتٌ قائمةٌ حصريًا على المبادرة المغربية مع بقاء الاعتراف الأمريكي لعام 2020 ساريًا.

– فرنسا لم تعد في خانة التلميح: فتحُ خدمات التأشيرات في العيون والداخلة، مشاريعُ ثقافيةٌ وتعليمية، وتكثيفُ الاتصالات السياسية قبيل التصويت الأممي في أكتوبر. إنها ترسيمٌ على الأرض لموقفٍ سياسي—وإشارةُ استثمارٍ متوسّطِ الأمد. والأبرز أنّ نقاشاتٍ تقنيةً فرنسيةً استحضرت نماذجَ حكمٍ ذاتيٍّ مقارنة (كالبولينيزيا الفرنسية) ليس نسخًا ولصقًا، بل كمرجعٍ لتصميمٍ مؤسساتي (التمثيليةُ المحلية، عودةُ السكان من المخيمات، إلخ).
– روسيا تؤكد التزامها بالحلّ السياسي ضمن الأمم المتحدة في ملف الصحراء المغربية على قاعدة «الحلول السياسية» واحترام قرارات الأمم المتحدة، وتتوسّع خارطةُ التعاون مع الرباط، وتلوّح من موسكو إشاراتٌ دبلوماسية تحمل ما يكفي من الدقة لتُقرأ كتحوّلٍ لافت في موقف روسيا تجاه قضية الصحراء؛ فحين تتحدث الخارجية الروسية عن ضرورة «حلٍّ واقعيٍّ ومتوازن».
– التجاذب الإفريقي يميل إلى الرباط: دولٌ—منها مالاوي—تُجدّد دعمها لوحدة التراب المغربي ولخيار الحكم الذاتي، فيما يتعزّز ذلك عمليًا عبر فتح قنصلياتٍ في العيون والداخلة. وعلى المستوى الأممي، تتواصل إعادة تمديد المينورسو مع شدّ نفعها السياسي، ضمن منطقِ مواكبةٍ لمسارٍ أُعيد تأطيرُه.

كلّ هذه المنجزاتِ الدبلوماسيةِ المغربية تجعل «البوليساريو» في ارتباكٍ داخليّ، ويكشف البيانُ تباينًا بين من يدعو إلى الانخراط في مسارٍ سياسيٍّ واقعي، ومن لا يزال يلوّح بخياراتٍ قصوى فقدت شروطها، خصوصًا مع تبدّل حسابات الراعي؛ فالجزائر تبدو أقلّ اندفاعًا في توظيف الورقة الانفصالية، بعدما تحوّلت إلى عبءٍ سياسيٍّ وماليٍّ محدودِ الجدوى.
المغرب، من جهته، يُملي واقعًا ولغةً جديدين عبر القنصليات والاستثمار؛ فلم يعد في موقع شرح قضيته بقدر ما بات يكرّس معالمَ واقعٍ لا رجعة فيه، من خلال قنصلياتِ العيون والداخلة. وتزايدُ افتتاحِ البعثات القنصلية يُترجم اعترافًا عمليًا بمغربية الصحراء وباستقرار مؤسساتها، والمشاريعُ والاستثماراتُ المهيكلة تؤكد اندماجَ الأقاليم الجنوبية في النسيج الاقتصادي والاجتماعي الوطني.
ناهيك عن مسارٍ أمميٍّ متدرّجٍ يتأكد بقرارات مجلس الأمن ودعمِ الحلول الواقعية، بما يجعل الحكمَ الذاتي الإطارَ العمليَّ لأي تسويةٍ مستدامة.

في الأخير، ما صدر عن «البوليساريو» أقربُ إلى محاولةِ تأجيلِ نعيِ أطروحةٍ استُنزفت بفعل الوقائع. ومع تقلّصِ سندها السياسي وتآكلِ جاذبية خطابها، لم يبقَ سوى بلاغاتٍ لغوية تُدار بأملِ كسبِ الوقت. في المقابل، يمضي المغرب من منطق الدفاع إلى منطق المبادرة، مُكرِّسًا واقعًا سياسيًا وجيوسياسيًا جديدًا.
وفي أفق هذا الواقع، تزداد قناعةُ المجتمع الدولي بأن الخيارات الانفصالية ليست طريقًا للحل، كما تُظهر تجاربٌ معاصرة. وعليه، يظلّ المقترحُ المغربي القائمُ على الحكم الذاتي البديلَ الأكثرَ اتزانًا لإنهاء النزاع، بما يجمع بين حفظِ الكرامة وواقعيةِ التنفيذ وحسنِ النية في طيّ هذا الملف نهائيًا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى