خطة “السلام الأمريكي” بين المغرب والجزائر: محاولة لوضع حد لنزاع عمره 50 عاما

أحمد رباص ـ تنوير
أدى إعلان ستيف ويتكوف، المبعوث الخاص للرئيس ترامب، عن “السلام الأمريكي” بين المغرب والجزائر، الذي تم تقديمه بثقة خلال البرنامج الأكثر مشاهدة على شاشة التلفزيون الأمريكي، إلى إحياء حلم مغاربي قديم: المصالحة بين الرباط والجزائر العاصمة. ولكن وراء هذا الوعد المذهل تكمن آلية دبلوماسية أكثر تعقيدا بكثير، وهي آلية إعادة تشكيل المغرب العربي تحت الهيمنة الأطلسية. لأن “السلام الأمريكي” المعلن عنه يخفي استراتيجية ذات حدين: تعزيز السيادة المغربية على أقاليمها الصحراوية مع إعادة وضع الجزائر كرأس جسر عسكري أمريكي جديد في منطقة الساحل والصحراء. قام المعهد الجيوسياسي آفاق بفك رموز آليات وأهداف ومخاطر هذه المحاولة للتهدئة التي يمكن أن تعيد تشكيل التوازنات الإقليمية بشكل دائم.
إعلان ويتكوف ودبلوماسية المشهد
في يوم الأحد 19 أكتوبر 2025، الساعة السابعة مساءً بالتوقيت الشرقي، قام ستيفن ويتكوف، المنعش العقاري في نيويورك الذي تحول إلى المبعوث الخاص للرئيس ترامب للشرق الأوسط، بإسقاط قنبلة جيوسياسية على أحد استوديوهات شبكة (سي بي إس) ضمن برنامج “60 دقيقة”. وردا على سؤال الصحفي ليزلي ستال حول المشاريع الدبلوماسية الأمريكية المقبلة بعد وقف إطلاق النار في غزة، رد ويتكوف بتأكيدات مثيرة للقلق بأن اتفاق السلام بين المغرب والجزائر سيتم إبرامه “في غضون ستين يوما”.
إن هذا الإعلان ليس تافها. هذا البرنامج التلفزي، الذي يُبث منذ عام 1968، هو أحد أكثر البرامج الإخبارية تأثيرا في العالم، حيث يشاهده أسبوعيا ما يقرب من عشرة ملايين أمريكي. إن اختيار هذه المنصة للإعلان عن مبادرة دبلوماسية بهذا الحجم هو جزء من استراتيجية اتصال منسقة بعناية: خلق زخم إعلامي، والضغط على السلطات المغاربية، واستباق أي نقاش داخل مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.
ستيفن ويتكوف ليس دبلوماسيا محترفا. وهو منعش عقاري منذ فترة طويلة وصديق شخصي لدونالد ترامب، وهو يجسد هذا الجيل الجديد من المبعوثين الرئاسيين من عالم الأعمال، مثل جاريد كوشنر الذي شارك معه في قيادة المفاوضات بشأن غزة. بالنسبة لهؤلاء “صانعي الصفقات”، فإن الدبلوماسية الدولية أشبه بمعاملة عقارية: تحديد مصالح كل طرف، وتطوير حزمة جذابة، وممارسة ضغط الوقت، والانتهاء بسرعة. وهذا النهج المعاملاتي، الذي أطلق عليه كوشنر نفسه اسم “الواقعية العملية”، يفضل المصالح على القيم ويركز على الحلول السريعة بدلا من العمليات الطويلة والمؤسسية.
الموعد النهائي المحدد في”ستين يوما” الذي ذكره ويتكوف ليس بريئا. فهو يشير إلى زمن استراتيجي مزدوج: من ناحية، زمن إدارة ترامب التي تسعى إلى مضاعفة “الانتصارات” الدبلوماسية السريعة إيذانا بعودتها إلى البيت الأبيض؛ ومن ناحية أخرى، الضغط الأقصى الذي يمارس على الرباط والجزائر لإجبارهما على قبول إطار تم التفاوض عليه في واشنطن، دون مجال كبير للمناورة.
لكن وراء هذه الصيغة الصادمة تكمن حقيقة أكثر تعقيدا. لأن هذه الوساطة الأمريكية، بعيدة كل البعد عن كونها مبادرة عفوية، بل تندرج في مسلسل دبلوماسي بدأ في إدارة بايدن واستمر دون انقطاع في عهد ترامب. فهو يكشف في المقام الأول عن استراتيجية أطلسية طويلة الأمد تهدف إلى إعادة تشكيل البنية الأمنية في منطقة المغرب العربي ومنطقة الساحل لفائدة المصالح الأميركية.
نسب الوساطة: من جوشوا هاريس إلى ستيفن ويتكوف
تعود أصول المبادرة إلى عمل جوشوا هاريس، المستشار المقرب للرئيس بايدن، الذي بدأ التحقيق في مواقف كل من الرباط والجزائر بشأن التطبيع المحتمل. وهدفت هذه الاتصالات السرية الأولى، التي أجريت بين عامي 2023 و2024، إلى تحديد الخطوط الحمراء لكل طرف وتحديد الخطوط العريضة للتسوية المحتملة.
ومع وصول إدارة ترامب في يناير 2025، عُهد بالملف إلى مسعد بولس، وهو رجل أعمال لبناني أمريكي تم تعيينه مستشاراً خاصاً لأفريقيا والشرق الأوسط. وزاد بولس، والد زوجة تيفاني ترامب والشخصية المؤثرة في المجتمعات المسيحية في بلاد الشام، من رحلاته بين الرباط والجزائر خلال النصف الأول من عام 2025، وأقام روابط ثقة مع الدوائر الحاكمة في العاصمتين.
وفي نهاية المطاف، فإن ستيفن ويتكوف، الصديق المقرب للرئيس والمهندس المشارك لوقف إطلاق النار في غزة إلى جانب جاريد كوشنر، هو المسؤول الآن عن إبرام الصفقة. ويوضح هذا التسليم رغبة واشنطن في التعامل مع القضية المغاربية بنفس البراغماتية التبادلية كتلك المنتشرة في الشرق الأوسط.
المحاور الخمسة الأولية: خارطة طريق طموحة
وفقا لمصادر دبلوماسية حصرية حصل عليها المعهد الجمهوري الدولي، تعتمد الوساطة الأمريكية في البداية على خمسة محاور هيكلية يمكن عرضها كما يلي:
ـ اعتراف الجزائر بالسيادة المغربية على الصحراء الغربية: هذه نقطة مركزية وغير قابلة للتفاوض بالنسبة للرباط، وهذا الاعتراف من شأنه أن يجعل من الممكن إغلاق النزاع الصحراوي بشكل نهائي من خلال حرمان جبهة البوليساريو من دعمها الإقليمي الرئيسي.
ـ المبادرة الأطلسية: ترغب واشنطن في دمج الجزائر العاصمة في هيكلها الأمني الإقليمي، مما يمثل نهاية العقيدة التاريخية المتمثلة في عدم الانحياز الجزائري.
ـ ترسيم الحدود بشكل نهائي: حل النزاعات الإقليمية الموروثة من الاستعمار الفرنسي، خاصة في المناطق المتنازع عليها في الصحراء الشرقية (مناطق تندوف وبشار وربما جارا جيبليت).
ـ التطبيع الثلاثي مع إسرائيل: دمج الجزائر وموريتانيا في اتفاقيات أبراهام، وبالتالي إنشاء محور دبلوماسي بين إسرائيل والمغرب والجزائر وموريتانيا تحت رعاية أمريكية.
ـ الاستغلال المشترك لرواسب غار جيبلات: إعادة تفعيل الاتفاقية الجزائرية المغربية لعام 1972 بشأن الاستغلال المشترك لرواسب خام الحديد هذه، وهي من أكبر الرواسب في العالم، وتقع في الأراضي الجزائرية بالقرب من الحدود المغربية.
إنذار متنكر في زي الوساطة
لكن الطموحات الأميركية لا تتوقف عند هذا الحد. وفقًا للتحليل المتعمق الذي أجراه المعهد الجيوسياسي آفاق، تم تعزيز وساطة ويتكوف تدريجيا بأحد عشر متطلبا إضافيا لا تشكل في مجملها وساطة متوازنة بقدر ما تشكل إنذارا جيوسياسيا حقيقيا يهدف إلى إحداث تغيير عميق في طبيعة “الدولة الجزائرية”.
1ـ تصحيح السلوك الدبلوماسي الجزائري: تطالب اشنطن الجزائر بالتخلي عن خطابها المناهض للغرب وموقفها الاحتجاجي في المحافل الدولية.
2ـ مراجعة العقيدة: نبذ عقيدة عدم الانحياز التاريخية الموروثة من الثورة الجزائرية وعصر بومدين.
3ـ الابتعاد عن روسيا: تقليص التعاون العسكري بشكل كبير مع موسكو، المورد الرئيسي للأسلحة في الجزائر (حوالي 70% من المعدات العسكرية الجزائرية من أصل روسي).
4ـ توقف برنامج التسلح: تجميد عمليات التسلح العسكرية الضخمة التي تمت منذ عام 2020 (زادت ميزانية الدفاع من 13.3 مليار دولار في عام 2020 إلى 25 مليار دولار في عام 2025).
5ـ الإصلاح الاقتصادي الهيكلي: الابتعاد عن النموذج الريعي القائم على الهيدروكربونات وفتح الاقتصاد أمام الاستثمارات الأمريكية.
6ـ الحد من التوترات الإقليمية: تطبيع العلاقات مع كافة الجيران (المغرب، تونس، مالي، النيجر).
7ـ تعزيز التعاون في مجال مكافحة الإرهاب: دمج آليات الاستخبارات الأمريكية بشكل كامل في الحرب ضد الجماعات الجهادية في منطقة الساحل.
8ـ إعادة تفعيل اتحاد المغرب العربي : إعادة إطلاق هذه المنظمة المحتضرة (المجمدة منذ عام 1994) تحت رعاية أمريكية.
9ـ نزع سلاح جبهة البوليساريو: تفكيك القدرات العسكرية للحركة الصحراوية المدعومة من الجزائر العاصمة منذ عام 1975.
10ـ حل مخيمات تندوف: إغلاق مخيمات اللاجئين الصحراويين الواقعة على الأراضي الجزائرية، والتي تؤوي بحسب المصادر ما بين 90 ألفاً و165 ألف شخص.
11ـ الهندسة الديموغرافية: توزيع السكان الصحراويين بين المغرب وبعض القبائل الموريتانية المحددة، وفق خطة تكامل إقليمي خاضعة للرقابة.
إنذار متنكر في زي الوساطة
إن تجاور هذه المتطلبات الأحد عشر مع المحاور الخمسة الأولية يكشف الطبيعة الحقيقية لـ”الوساطة” الأمريكية: فالأمر لا يتعلق بتيسير حوار متوازن بين دولتين ذواتا سيادة، بل بفرض تحول منهجي للدولة الجزائرية لمواءمتها مع المصالح الاستراتيجية الأطلسية.
تمس هذه الاستراتيجية الركائز الأساسية للجزائر ما بعد الاستقلال: مبدأ عدم الانحياز (المدرج في دستورها)، واقتصادها الريعي (مصدر شرعية النظام)، وقوتها العسكرية (ضمان سيادتها) ودعمها لحركات التحرير (إرث حرب الاستقلال الخاصة بها). باختصار، لا تطلب واشنطن من الجزائر التفاوض مع المغرب: بل تطلب منها إعادة تشكيل ذاتها بالكامل تحت إشراف أميركي.
يفسر هذا النهج المتطرف إلى حد كبير شكوك المراقبين حول فرص نجاح وساطة ويتكوف. فكيف لنا أن نتصور أن الدولة القومية التي تشكلت بعد مائة واثنين وثلاثين عاماً من الاستعمار وسبع سنوات من حرب التحرير سوف تتفق في ستين يوماً على التخلي عن مبادئها التأسيسية؟
استقرار الصحراء: ضرورة استراتيجية أمريكية
بالنسبة إلى واشنطن، ليس حل الصراع الصحراوي غاية في حد ذاته، بل وسيلة لتحقيق هدف أوسع: تأمين منطقة الساحل والصحراء، التي أصبحت المركز العالمي للإرهاب الجهادي. منذ الانسحاب الأمريكي من النيجر في عام 2023 (إخلاء القاعدة الجوية 201 في أگاديس، والتي كانت تؤوي أكثر من ألف عسكري أمريكي وتشكل المركز الرئيسي للطائرات بدون طيار في أفريكوم في غرب أفريقيا)، فقدت الولايات المتحدة منصة العرض العسكري الرئيسية في المنطقة.
تأتي هذه الخسارة الاستراتيجية الكبرى في سياق التدهور الأمني المتسارع في منطقة الساحل: زيادة الهجمات الجهادية (جماعة نصرة الإسلام والمسلمين، تنظيم الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى)، والامتداد الجغرافي للتمرد، وتدفق المقاتلين الأجانب والاتجار غير المشروع بجميع أنواعه (الأسلحة، المخدرات والبشر). بالنسبة إلى أفريكوم، القيادة الأمريكية لأفريقيا ومقرها شتوتغارت (ألمانيا)، أصبحت استعادة القدرة على التدخل السريع في منطقة الساحل والصحراء أولوية مطلقة.
إلا أن النزاع على الصحراء المغربية الغربية يشكل العقبة الرئيسية أمام هذا الطموح. وما دام المغرب والجزائر متجمدين في التنافس التاريخي بينهما، فإن أي تنسيق أمني إقليمي يظل مستحيلا. لذلك اختارت واشنطن، بدلاً من الحفاظ على موقف متساوي البعد الدبلوماسي، أن تدعم دعما كاملت الموقف المغربي (اعتراف ترامب بالسيادة على الصحراء في 10 ديسمبر 2020، والذي حافظ عليه بايدن) بينما تعمل على تعبئة الجزائر بوسائل أخرى.
الجزائر رأس الجسر العسكري الأمريكي الجديد؟
وإذا كان المغرب يرفض دائما استضافة مقر أفريكوم على أراضيه (رغم التعاون العسكري الوثيق مع واشنطن)، فإن الجزائر لديها أصول جيواستراتيجية طالما رغبت الولايات المتحدة في الحصول عليها: عمق استراتيجي صحراوي فريد، وبنية تحتية عسكرية من الدرجة الأولى، وموقع جغرافي مثالي لمراقبة قوس الأزمة الساحلية الصحراوية بأكملها.
من هذا المنظور يجب أن نفهم إعادة تنشيط مشروع القاعدة الأمريكية في تمنراست، في أقصى جنوب الجزائر. تشكل هذه المنشأة، التي تم بناؤها في التسعينيات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين من قبل شركة براون روت آند كوندور، وهي شركة تابعة للعملاق الأمريكي هاليبرتون، بنية تحتية عسكرية وفقا لمعايير الناتو في وسط الصحراء الكبرى. تهدف القاعدة رسميا إلى أن تكون بمثابة مهبط طائرات مستعجل لمكوك الفضاء كولومبيا، وستشمل في الواقع قدرات أكبر بكثير: مدرج بطول 4000 متر، ومخابئ وعرة، ومرافق مراقبة إلكترونية، ومساكن لأكثر من ألف شخص، وحتى حوض سباحة أولمبي.
تقع هذه القاعدة بالقرب من إهرير، على بعد حوالي ثمانين كيلومتر جنوب شرق إليزي، وتستفيد من موقع استراتيجي استثنائي: على مسافة متساوية من الحدود الليبية والنيجيرية والمالية، وتوفر تغطية بالرادار والطائرات بدون طيار في الصحراء الوسطى بأكملها والساحل الغربي. وفي وقت مبكر من العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، حاولت الولايات المتحدة استئجار المنشأة رسميا، وعرضت نشر طائرات المراقبة بدون طيار من طراز بيلاتوس PC-12 وفرق العمليات الخاصة هناك.
في يناير 2012، وفي مواجهة ضغوط من الرأي العام وبعض الأطراف القومية للجيش، رفضت الحكومة الجزائرية رسميا أي وجود عسكري أجنبي دائم على أراضيها، مؤكدة من جديد المبدأ الدستوري المتمثل في عدم الترحيب بالقواعد الأجنبية. لكن هذا الموقف المبدئي لم يمنع تطور تعاون عسكري غير رسمي وثيق على نحو متزايد.
2025: عام التحول الجزائري الأمريكي
تمثل أحداث 2025 نقطة تحول حاسمة في العلاقات الأمنية بين واشنطن والجزائر العاصمة. منذ شهر يناير، تشهد سلسلة من الاتصالات العسكرية رفيعة المستوى على تقارب استراتيجي كبير.
22 يناير 2025: الجنرال مايكل لانجلي، قائد أفريكوم، يقوم بزيارته الثالثة للجزائر خلال ثلاث سنوات ويوقع مذكرة تفاهم حول التعاون العسكري مع الجنرال سعيد شنقريحة، رئيس أركان الجيش الوطني الشعبي.
مايو 2025: المدمرة الأمريكية (يو إس إس شيرمان) تتوقف في الجزائر العاصمة، وهي أول زيارة تقوم بها سفينة حربية أمريكية إلى العاصمة الجزائرية منذ أكثر من عقد.
سبتمبر 2025: اللواء كلود ك. تيودور جونيور، قائد العمليات الخاصة للقوات الأمريكية في أفريقيا (سوكافريكا)، يذهب إلى الجزائر العاصمة لإجراء مناقشات متعمقة حول مكافحة الإرهاب مع الفريق مصطفى سمالي، قائد القوات البرية الجزائرية.
أكتوبر 2025: (يو إس إس روزفلت)، مدمرة من طراز أرلي بيرك، ترسو في ميناء الجزائر العاصمة كجزء من “زيارة روتينية” بما في ذلك التبادلات مع الضباط الجزائريين وأنشطة المشاركة المجتمعية.
إن هذا التراكم للزيارات العسكرية رفيعة المستوى في غضون عشرة أشهر أمر غير مسبوق في تاريخ العلاقات الجزائرية الأمريكية. فهو يظهر رغبة مشتركة في تعميق التعاون الأمني، لا سيما في ما يتعلق بالاستخبارات ومكافحة الإرهاب ومراقبة المناطق الساحلية والصحراوية.
والأهم من ذلك: لم يتم الإبلاغ عن أي زيارات متبادلة لكبار المسؤولين العسكريين الجزائريين إلى الولايات المتحدة خلال نفس الفترة. ويشير هذا الخلل إلى أن مبادرة التقارب تأتي بوضوح من واشنطن، التي تعمل على زيادة أعمالها لإقناع الجزائر باهتمام تعزيز التحالف الاستراتيجي.
قاعدة تمنراست: أسطورة أم واقع عملي؟
وإذا ظلت الجزائر العاصمة تنفي الوجود العسكري الأمريكي الرسمي في الجزائر رسميا، فإن عدة مؤشرات تشير إلى وجود تعاون عملياتي سري بالفعل. وبحسب مصادر استخباراتية نقلتها وسائل إعلام متخصصة، فقد تم إعادة تنشيط قاعدة تمنراست بشكل غير رسمي منذ عام 2023، حيث ترحب بالأفراد الأمريكيين “بدون شارات” ومعدات المراقبة الإلكترونية وطائرات الاستطلاع بدون طيار.
ومن شأن هذا الوجود غير الرسمي أن يجعل من الممكن التحايل على الحظر الدستوري الجزائري مع منح أفريكوم القدرة على المراقبة والتدخل في منطقة فقدت فيها الولايات المتحدة مكانتها بعد الإطاحة بها من النيجر. وبالتالي فإن النشر السري للأصول الأمريكية في الأراضي الجزائرية سيشكل تعويضا جزئيا عن خسارة قاعدة أگاديس201.
بالنسبة إلى واشنطن، تتمتع هذه الاستراتيجية بميزة مزدوجة: فهي تجعل من الممكن الحفاظ على وجود عسكري عملياتي في قلب الصحراء دون تحمل التكاليف السياسية علناً؛ ويخلق حالة من الاعتماد التدريجي للجزائر على الولايات المتحدة من حيث الاستخبارات ومكافحة الإرهاب.
المغرب: حليف متميز ولكنه غير صالح
ومن المفارقة أن رفض المغرب الترحيب بأفريكوم على أراضيه هو الذي دفع واشنطن إلى تطوير هذه الاستراتيجية الجزائرية. ورغم التحالف الاستراتيجي القديم (معاهدة الصداقة لعام 1787، وهي واحدة من أقدم المعاهدات الأمريكية التي لا تزال سارية)، فقد حرصت المملكة الشريفة دائمًا على الحفاظ على استقلالها الاستراتيجي.
من المؤكد أن الرباط وافقت على المشاركة في مناورات عسكرية مشتركة منتظمة (مثل مناورة الأسد الأفريقي، وهي أكبر مناورة عسكرية أميركية في أفريقيا)، ولكنها رفضت بشكل منهجي استضافة قاعدة أميركية دائمة أو مقر أفريكوم. ويعكس هذا الموقف عقيدة جيوسياسية مغربية عمرها قرون: مضاعفة الشراكات دون الارتباط حصراً بقوة واحدة.
بالنسبة لواشنطن، يشكل هذا الحكم الذاتي المغربي رصيدا وقيودا في نفس الوقت. وهو مصدر قوة لأنه يمنح المغرب مصداقية دبلوماسية في أفريقيا لا تتمتع بها الدول التي يُنظر إليها على أنها “ملاحق” أمريكية. وهو عائق لأنه يحد من قدرة الولايات المتحدة على استخدام الأراضي المغربية كمنصة إسقاط عسكرية نحو منطقة الساحل.
ومن هنا جاء الإغراء الأميركي باللعب على جبهتين: الاعتماد على المغرب كحليف متميز في المغرب العربي، مع تطوير القدرة على التدخل المستقل عبر الجزائر. وتهدف استراتيجية “الاختراق المزدوج” هذه إلى منح الولايات المتحدة أقصى قدر من حرية العمل في المنطقة، بغض النظر عن إحجام أو حسابات شريك معين.
المصالحة أم التوافق؟
ومن هذا المنظور، لا تشكل وساطة ويتكوف محاولة نزيهة للتوفيق بين “أخوين معاديين” بقدر ما تبدو كأداة لإعادة التشكيل الجيوسياسي للمغرب العربي. ومن خلال فرض مصالحة الواجهة بين الرباط والجزائر العاصمة، تسعى واشنطن إلى:
ـ تحييد التنافس المغاربي مما يعيق أي تنسيق أمني إقليمي.
ـ إضفاء الشرعية على الوجود العسكري الأمريكي في الجزائر تحت ستار معركة مشتركة لمكافحة الإرهاب.
ـ إضعاف نفوذ المغرب الساحلي من خلال خلق قنوات مباشرة للتعاون بين واشنطن وعواصم الساحل، دون المرور بالرباط.
ـ عزل روسيا والصين من خلال قطع الجسور الإقليمية الرئيسية (الجزائر-موسكو، وربما المغرب لبكين).
تشرح هذه القراءة الاستراتيجية لماذا تنطوي الوساطة الأمريكية على الكثير من المطالب الأحادية المفروضة على الجزائر: فالأمر لا يتعلق بالموازنة بين مواقف البلدين، بل بمواءمتهما مع المصالح الأمريكية، كل منهما بطريقته الخاصة. دور محدد.
خاتمة
بعيداً عن الاعتبارات الدبلوماسية والحسابات الجيوسياسية، تواجه الوساطة الأميركية عقبة أساسية: عدم التوافق البنيوي العميق بين الدولتين التي تدعي التوفيق بينهما. المغرب والجزائر ليسا مجرد دولتين في صراع إقليمي؛ إنهما نظامان سياسيان واقتصاديان واجتماعيان مختلفان جذريا، يشكلهما تاريخ متباين ويجسدان نماذج متعارضة للتنمية.
