مصطفى المنووي
علينا أن نقر، كجيل القنطرة المخضرم، بأنه في زمننا الراهن تصاعدت الفردانية وتراجعت الروابط الاجتماعية، فبرز جيل “زيد 212” كرمز لمرحلة جديدة من الوعي المرقمن والمجزأ، جيل يعيش في العالم الافتراضي أكثر مما يعيش في الواقع، ويتنفس عبر الشاشات أكثر مما يتفاعل عبر الوجوه. لقد صار هذا الجيل نموذجًا لما يمكن تسميته بـ“النرجسيات الجماعية”، حيث يتقاسم الأفراد وهم التميز والانفصال، لكنهم يفعلون ذلك جماعيًا، في فضاء يخلط بين التعبير الحر والاستهلاك المفرط للذات.
ومن هذا المنظور، يمكن قراءة الظاهرة من خلال مقاربة التفكير النقدي التوقعي، التي تدعونا إلى تجاوز الأحكام الأخلاقية السطحية نحو فهم ديناميات التحول الثقافي العميق الذي يطال معنى العيش المشترك. فجيل “زيد 212” ليس مجرد مراهقة جماعية، بل انعكاس لتحول القيم نحو نمط جديد من “الأنانية الأخلاقية” التي تحدثت عنها آين راند، حيث يُعتبر تحقيق الذات هو المعيار الأعلى لكل فعل، دون اكتراث بالمعنى الاجتماعي أو الأخلاقي التقليدي.
ففي فلسفة آين راند الأمريكية ذات الأصول الروسية و صاحبة مؤلف ” الأنانية كفضيلة ” ، تُرفع الأنانية إلى مرتبة الفضيلة لا من باب الغريزة أو النرجسية، بل من باب احترام العقل وحرية الاختيار، إذ ترى أن التضحية بالذات لأجل الآخرين نوع من العبودية الأخلاقية، وأن المصلحة العاقلة هي جوهر الكرامة الإنسانية. غير أن هذا التصور، وإن كان يحرّر الفرد من أوهام الجماعة، فإنه قد يسقط في نرجسية مُمأسسة، تختزل العلاقة بالآخر في منطق المنفعة وتُقصي أبعاد العناية والتشارك.
أما التفكير النقدي التوقعي فيسعى إلى تجاوز هذا التعارض، عبر عقلنة الفردانية لا نفيها، وتحويلها من تمركز حول الذات إلى تحرر للذات، بحيث يصبح العقل أداة للمسؤولية المشتركة، لا لتبرير المصلحة الخاصة. فالتوازن هنا يقوم على الجمع بين الحرية والتضامن، بين الاستقلالية والعناية، في أفق يربط الإبداع بالضمير لا بالأنانية المجردة.
ومع ذلك، فإن هذا النوع من الفردانية الرقمية لا يقود بالضرورة إلى الحرية، بل قد يتحول إلى عزلة مقنّعة، إلى سجن من الصور والانعكاسات، كما لو أن كل واحد منهم ينظر في مرآة الجماعة فلا يرى سوى ظله. هنا يصبح التفكير النقدي التوقعي ضرورة، لا لرفض هذا الواقع بل لاستباق نتائجه، ولإعادة توجيه طاقة الفرد نحو العناية بالذات بما يتيح له العناية بالآخرين، في توازن جديد بين الاستقلال والمسؤولية. وقد يصحّ القول بسخرية إن الجيل كالسمكة، مهدد بالموت كلما ابتعد عن مائه، تمامًا كالفنان في السينما الذي لا يُحسن التعبير على ركح المسرح؛ فخداع الكاميرا يفضحه الجمهور المباشر. وهكذا فإن من تعوّد على العيش في فضاء زائف للتمثلات، يجد نفسه عاجزًا عن التواصل في فضاء الحقيقة.
لذلك، لا يتعلق الأمر بإدانة جيل، بل بتفكيك علاقة الإنسان المعاصر بذاته ومعناه، وبالدعوة إلى استعادة “فن العيش النقدي” كمسار للتوازن بين الحضور الرقمي والوجود الإنساني الفعلي، بين حرية التعبير وأخلاق العناية، وبين الفردانية الخلّاقة والضمير الجماعي المتجدد.
في النهاية، لا يمكن مواجهة نرجسية “جيل زيد 212” بمجرد الحنين إلى الماضي أو التنديد الأخلاقي، بل بالعناية بقيمة التواصل التاريخي التي تجمع بين المجايلة والتضامن النقدي. فالأجيال لا تُقاس بعمرها الزمني فقط، بل بقدرتها على الإنصات المتبادل واستثمار الذاكرة المشتركة في بناء المستقبل. إن استعادة روح الحوار بين الأجيال تمثل شرطًا لبعث المعنى في زمن السرعة والسطحية، حيث يصبح التفكير النقدي التوقعي أداة لإعادة وصل ما انقطع، دون التفريط في المشترك الإيجابي المتراكم الذي شكّل على الدوام رصيد الأمة ومصدر توازنها الرمزي والمعنوي.
* الشعار سيكون موضوع مقال خاص قريبا