ثقافة و فن

“كنت وحدي “ديوان منير الدايري تقديم ذ عبد الرحيم التدلاوي

تقديم

طلب منّي منير الدايري كتابة تقديم لديوانه “كنت وحدي “، ترددت طويلا، بل شعرت بحرج فعلي. فالقادم من عالم السرد، من تلك الأجواء الساحرة حيث تنسج الحكايات خيطا خيطا، ولبنة فوق لبنة لتشييد صرحها العظيم والمدهش، يدرك أن للشعر حيزا مختلفا؛ إنه الومضة التي تسبق الكلمة، فالشعر ليس تسلية ولا بضاعة او لعب يتاجر بها الشطار والتجار في سوق الكلمات؛ الشعر لا يسلي ولا يلهي ولا يباع ولا يشترى. الشعر رسالة الشاعر الإنسان؛ لشبيهه من الناس في الألم والمعاناة

الشعر موقف من الحياة. ص 48.

فاكهة الحكي؛ قراءات أدبية. جمال الدين حريفي. كلمات للنشر والطباعة والتوزيع. مطابع الرباط نت. ط1

. لم أدخل عتبة الديوان ناقدا متخصصا، بل دخلته قارئا متعطشا لنسمة جديدة، هواء يحمل نبرة لم أعهدها.

وزادني ترددا قناعتي بأن التقديم الحقيقي للنص يكمن بين سطوره هو ذاته، وأن القصيدة الأصيلة تنهض بنفسها، حاملةً هويتها ومسوغات وجودها. يفارض التقديم أن يكون في الأول ككشاف ملهم، أو رئيس طليعة ينير درب القارئ، بيد أنه، في حقيقته، يتغذى على النصوص وبعدها يصوغ نفسه، وهو ما يشي برتبته المتأخرة، ومن هنا نبع لدي السؤال التالي: كيف لي أن أقدم ما يكفي نفسه بنفسه؟ لكني، في النهاية، وجدت في نصوص منير الدايري ما يستحق أن ألتزم بالإشارة إليه، ولو من على عتبة القصيدة، كسارد يهمس للقارئ: “هنا، ثمة شيء يستحق الوقوف عنده”.

يكتب منير الدايري في هذا الديوان، الذي يعد تجربة شعورية متكاملة، قصيدةً مشبعة بالتأمل، لا تهادن القارئ ولا تبحث له عن مخرج سهل. وهي ابنة بيئتها بامتياز؛ فذلك الفتى الذي وُلد في نوفمبر 1984 بمدينة وجدة، حيث تمتزج الشمس برائحة التراب، ويصحو القلب على أصوات الحكايات القديمة في بيتٍ بسيطٍ يعجّ بالذاكرة، بدأ حواره الأول مع اللغة وهو يصغي إلى جدّاته ينسجن القصص بلهجة دافئة تشبه الحلم. من هناك ولدت قصيدته، باعتبارها حاجة داخلية تشبه التنفّس.

لذا، لا عجب أن تكون قصائده مسكونةً بذلك التوتر الإنساني الأبدي: بين الذاكرة التي تثقل والنسيان الذي يخون، وبين الأمل الذي يلمع والانكسار الذي يتربص. في نصوص مثل “على حافة الزمن”، لا نقرأ الشعر بقدر ما نمشي مع الشاعر على خيط رفيع من اليأس. إنه صوت لا يطلب المواساة، بل يبحث عن حقيقة ترتجف.

ويأتي الليل في قصيدة “في حضرة الليل” بمثابة مسرح للانكشاف الداخلي. هنا، يتحول الشاعر إلى غريبٍ يتوسل إلى السماءكي تمطر عليه نيزكًا يحمل وجعه بعيدا، أو يرسله في أغنية إلى نجمةٍ بعيدة قد تفهم ما لم يفهمه البشر. يقول الشاعر:

كبدي التي صارتْ كتلةَ فحمٍ تحتَ رمادِ الأيام؟

فؤادي عصيرٌ مرّ،

كعنبٍ سُحقَ تحتَ أقدامِ الوقت.

أنا العليلُ،

الذي يحبُّ المساءَ ويكرههُ،

كعاشقٍ يعشقُ خيانةَ الحبيب.

نواجذي تطقطقُ من لهبِ الحزن،

وظلّي يرقصُ في الدجى،

كأنّه شبحٌ سكرانٌ،

يترنّحُ بين النجوم.

أتوسّلُ نيزكًا،

أن يشقَّ السماءَ الليلة،

يحملني بعيدًا،

حيثُ لا نفقَ يبتلعُ الضوء،

حيثُ أستندُ إلى كتفِ القمر،

وأحكي له عن ليلةِ أمس،

عن ريحٍ حملتْ رائحةَ الياسمينِ من بيتِ الجيران،

واللافت أن المجاز في النص يعد نسغه ودمه؛ كونه امتدادا طبيعيا للواقع الداخلي للشاعر. فـ “الرمل” في “خطوات على الرمال” يصير ذاكرة تمحى وتبقى في آن واحد. يقول:

سأَلْتُ الكَلِمَاتِ: أَيْنَ مَلْجَأُ القَلْبِ؟

فَأَشَارَتْ إِلَى الوَجْهِ الَّذِي يَتَذَكَّرُنِي

قَبْلَ أَنْ أُولَدْ.

ثم تأتي قصائد مثل “عتبات الظل” و “بهجة قلبي” وغيرهما، لتكتمل الدائرة. هنا، تتداخل الرؤيا الشعرية الثاقبة مع العبارة اليومية البسيطة، في مزيجٍ أخاد. وحيث تتحول الام والمدينة واضواؤها شفرات في قصيدة كبرى، تحاول أن تكون مرآة صادقة لذلك الهمس الداخلي الذي لا يقال. إنها أناشيد للصبر، وهمسات للقمر، وسقيا للروح المتعطشة للنور. يقول:

بهجة قلبي تمشي حافيةً

تتبعُ أثر الضوء حين يتسلل من خصلة شمس،

وتجمع من الطرقات وجوهاً

نسيتها المدينة على أرصفتها.

والبين، إذن، أنني لا أكتب هذا التقديم لأرسم خريطة طريقٍ ثابتة يسترشد بها القراء، فالشعر الحقيقي لا يخضع لخرائط. وإنما أكتبه لأشير — بتواضع القادم من خارج الأسوار — إلى أن هذا الديوان يحمل بنية داخلية متماسكة تستحق التأمل، وصوتا شعريا لافتا، جديرا بالاستماع.

منير الدايري شاعر يسكن الكلمات. قصيدته/قصائئده تنضح بالصدق، تنبع من التجربة الحية ، تمج  التصنع كما تمنح التكلف. قد أكون قادما من عالم السرد، ولكنني في النهاية قارئ. وهذا الديوان، بكل ما فيه من وجع وجمال، ومن غربة داخلية وإيمان صامد، لمس فيّ شيئا. وهو ما جعلني أضع هذه الكلمات على بابه، واثقا بأن القارئ قد يجد بداخله ما وجدته: فلربما سيجد شعرا يلامس الروح، ودعوة صادقة للغوص في الذات، حيث ينتظرنا جميعا ذلك الوميض من النور الذي يضيء أعماقنا.

الاستاذ عبد الرحيم التدلاوي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى