يبدو أن المكتب الوطني لنقابة مفتشي التعليم قد استيقظ أخيراً من سباته الطويل، استيقاظا لم يأتِ بصفير الطيور ولا بنور الفجر، بل على صوت الاحتجاجات التي بدأت تعلو يوماً بعد يوم في صفوف نساء ورجال التعليم ومن ضمنهم هيئة التفتيش والتأطير والمراقبة، فالبلاغ الأخير الصادر من سلا، بتاريخ 29 أكتوبر 2025، جاء أقرب إلى محاولة استدراك الزمن النضالي المهدور منه إلى إعلان نهوض حقيقي يعيد للنقابة بريقها المفقود منذ زمن، ظلّت النقابة تتأرجح بين ولاءٍ حذر للوزارة الوصية وحرصٍ خجول للدفاع عن مطالب الهيئة. هذا التردد كلّفها كثيراً؛ فصفوفها انقسمت بين من يرى في “النجاح التقني لمدرسة النجاح” عنواناً للفاعلية، ومن يعتبر أن جوهر التفتيش رسالة تربوية ومشروع مجتمعي لا يمكن اختزاله في التقارير والزيارات، ثم هناك من حمل راية الإصلاح من داخل النقابة نفسها، داعياً إلى مواجهة السياسات التي تبخّس دور المدرسة العمومية وتفرّغها من بعدها الوطني، ليجد نفسه أحياناً في مواجهة القيادة الوطنية للنقابة قبل أن يواجه الوزارة.
في هذا المناخ الملبّد بالتعب والإحباط والاحتراق المهني، جاء البلاغ كجرس إنذار متأخر، يدعو إلى عقد حوارات جهوية، ويعلن عن “الرفع من درجة اليقظة والتعبئة”. غير أن المتأمل في متن البيان لا يجد ما يترجم نَفَس الغضب أو يعلي روح المقاومة، بل يجد نفسه أمام لغة بيروقراطية ناعمة توازن بين النقد والترضية، وتحاول أن تفتح نافذة دون أن تكسِر الزجاج.
البلاغ يعترف، ضمناً، بأن النقابة كانت غائبة عن مسرح الأحداث، إن لم نقل إنها لعبت دور امتصاص الصدمات في الاتجاهين، وهو حين يتحدث عن “حساسية المرحلة المفصلية” و” تحصين الاختصاصات والمهام”، إنما يستعير لغة طلب الإنقاذ بعد الغرق، وذلك في محاولة لطمأنة ما تبقى من قواعد بدأ منسوب ثقتها في القيادة يضمحل يوما عن يوم. إنه بيان يعبّر عن وعي بالهوة التي اتسعت، لكنه ما زال يفتقر إلى الجرأة التي تجسرها.
اليوم، يبدو المكتب الوطني كمن يحاول أن يستعيد، قبل نهاية ولايته القريبة، أنفاسه بعد سباقٍ أنهكه دون مكتسبات حقيقية، يتحدث عن الحوار بينما القواعد تتحدث عن الفعل، عن الاجتماعات بينما هيئة التفتيش تغلي بأسئلة المصير والكرامة والهوية المهنية.
ولأن اللغة مرآة الوعي، فإن هذا البلاغ يعكس وعياً مأزوماً: يدرك عمق الأزمة، لكنه يخاف أن يسمّيها باسمها.
ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن هذه الخطوة، مهما كانت متأخرة، تحمل نَفَساً جديداً إن أحسن استثماره. فالدعوة إلى النقاش الواسع قد تكون بداية مراجعة داخلية شجاعة، إذا ما تحررت من الحذر واستعادت النقابة من خلالها وظيفتها التاريخية: أن تكون ضمير المدرسة المغربية، لا مجرد وسيط ناعم بين غضب القواعد وإكراهات الوزارة.
في النهاية، يظل البلاغ وثيقة بين زمنين:
زمن الصمت المطبق، وزمن النهوض البطيء والمترنح.
فهل ستتحول هذه “الصحوة الخجولة” إلى وعيٍ نقدي يُعيد للنقابة مكانتها كقوة اقتراح وممانعة؟
أم سنضيفه إلى أرشيف البلاغات التي تُكتب حين يكون زمن الفعل قد فات أو أريد له أن يفوت؟
الجواب، كما العادة، لن يكتبه المكتب الوطني وحده، بل سيكتبه المفتش والمفتشة، بصبرهما، وصوتهما، وإيمانهما بأن الإصلاح لا يُمنح، بل يُنتزع.