ثقافة و فن

موت المؤلف: رؤى حداثية غربية- المصطفى عبدون

   إن من مقتضيات تمام العملية الإبداعية أن تكون هناك صلة نفسية ومعرفية بين أطرافها: المؤلف، النص، القارئ وذلك يتيح “حرية للقارئ في إعادة بناء النص، وإذا انتفت المسافة النفسية افتقد القارئ القدرة على ممارسة خبرة الإبداع في تذوق العمل الفني، وأضحى العمل الفني نوعاً من التغييب للقارئ، بينما تتيح المسافة النفسية أن يكون حضور القارئ مساويا لحضور المؤلف لكي يدير حواراً معه”(1)، فكيف يحدث ذلك إذا افترضنا موت أحد أطراف عملية الإبداع وهوالمؤلف.

ولذلك كانت البنيوية منهجاً مجرداً بعيداً عن تأثير ذات الإنسان الفاعلة، والتي هي حصيلة التفاعل العام والشامل مع الوجود، وبذلك أصبح المنظور البنيوي للوجود لا علاقة له بكينونة الإنسان التاريخية والاجتماعية، بل بالعلاقات اللغوية الشكلية التي تعتمد المنهج الجمالي المجرد للأشياء التي تتشكل دلالاتها ذاتياً دون فعل الإنسان.(2)

كانت النظرة الكلاسيكية السائدة، تنظر إلى العمل الأدبيعلى أنه ابن شرعي لمؤلفه وانعكاس لحياته وثقافته ونفسيته، وإن إضاءة النص بهذه المعطيات يساعد القارئ على التماهي مع أفكار المؤلف ومقاربة تجربته الشعورية، ثم ظهر اتجاه نقدي متزامن مع ظهور البنيوية يدعو إلى التركيز على لغة النص وعزل مؤلفه الذي لم يعد سلطة تهيمن على معاني النص ودلالاته.  وترتد فكرة “موت المؤلف” إلى جذور فلسفية وفكرية ترتبط بالظروف الموضوعية التي عاشتها أوروبا بعد ثورتها على الكنيسة، فقد أعلن الفيلسوف الوجودي “نيتشه” مقولة “موت الإله” ووجدت هذه المقولة صدى واسعاً في أوساط النقاد الأوروبيين الذين يتوقون إلى تدمير الاتجاه الغيبي في تفسير النصوص، وإفساح الطريق أمام ظهور الإنسان بكل مقدراته البشرية التي يدركها العقل وما عدا ذلك فهو ميت.

انتقلت مقولة “موت الإله” إلى النقد الأدبي، فأعلن النقاد الغربيون وعلى رأسهم “رولان بارت” عن “موت المؤلف”.يؤكد “رولان بارت” أن عدداً من النقاد الأوروبيين قد سبقوه إلى مقولة “موت المؤلف” مثل الأديب الفرنسي “مالارميه” الذي كان من أوائل المتنبئين بضرورة إحلال اللغة ذاتها محل من كان مالكاً لها، فاللغة هي التي تتكلم وليس المؤلف، وكذلك أشار “بارت” إلى جهود “بول فاليري” التي جاءت مكملةً لآراء “مالارميه”، حيث كان “فاليري” يضع المؤلف موضع سخرية، وأن اللجوء إلى دواخله خرافة، ولا بد من التركيز على البنية اللغوية لعمل المؤلف وإقصائه عنها.(3)

كما استفاد “بارت” من جهود العالم اللغوي السويسري “دي سوسير” الذي نظر إلى النص بحسبانه شبكة من عناصر الاتصال اللغوية، ولذلك فإن خير وسيلة لمقاربة هذا النص هي الانطلاق من مصدره اللغوي، أي من بنيته الداخلية بهدف استكشاف الأنظمة أو العلاقات التي تشكل دلالاته، بمعنى أن حركة التحليل البنيوي تتجه من داخل النص إلى خارجه، وليس من خارجه المتمثل بالمؤلف والسياق والعصر والبيئة على بنيته ونسيجه وقد ذكر”بارت” في مقاله “النقد والحقيقة” الذي صدر عام 1966، أن نمط النقد البيوغرافي الذي يؤكد العلاقة بين النص والمؤلف قد انتهى، وقد حظرت السيكولوجيات الجديدة هذا النوع من التحليل.(4)

ثم يوضح “بارت” مبررات مقولته “موت المؤلف” بقوله “إن نسبة النص إلى مؤلفه معناها إيقاف النص وحصره وإعطاؤه مدلولاً نهائياً، إنها إغلاق الكتابة…وعندما يأبى الأدب النظر إلى النص كما لو كان ينطوي على سر أي على معنى نهائي، فإن ذلك يولد فعالية يمكن أن نصفها بأنها ضد اللاهوت، وأنها ثورة بالمعنى الحقيقي للكلمة، وذلك أن الامتناع عن حصر المعنى وإيقافه معناه في النهاية رفض اللاهوت ودعائمه.”(5)

وقد كانت الشكلانية الروسية التي مهدت للبنيوية أوائل القرن العشرين السباقة إلى إقصاء المؤلف وعزله والتركيز على البنية اللغوية والدلالات الكامنة تحت السطح النصي “فللقبض على شعرية النص لامجال للاعتماد على حياة المؤلف ونفسيته ولا لدراسة بيئته وجنسه ولا للذاتية وأحكام القيمة، ولا لتقمص الناقد بأحكام المعيارية تحسينا أو تقبيحاً دور شخصية الرقيب وصاحب السلطة الجمالية المتحكمة في المبدع والملتقى لأن نقداً من هذا القبيل لا يمكنه أن يحل محل تحليل علمي موضوعي لفن اللغة ووصفها.”(6)

لقد أعطى نقاد البنيوية وما بعدها للقارئ السلطة الكاملة في تأويل النصوص بما يتجاوز في بعض الأحيان البنية الدلالية الواضحة للنص، بمعنى أن موت المؤلف هو الشرط الوحيد لولادة القراءة أو على حد تعبير بارت “ميلاد القارئ رهين بموت المؤلف.”(7)

اقتربت الشكلانية من البنيوية عندما ازدهرت مدرسة براغ على يد “رومان ياكبسون” الذين دعا إلى تحليل النصوص من خلال بنيتها اللغوية والتنظيم الصوتي المستقل لدوالها من خلال العلامات الدالة.إن عزل الخطاب الأدبي عن السياق التاريخي والثقافي للنصوص، أدى إلى قصور في النقد البنيوي، ولذلك نظر “ميشيل فوكو” وهو من نقاد ما بعد البنيوية، إلى الخطاب الأدبي بوصفه نشاطاً إنسانياً إبداعياً مركزياً، ولا يراه نصاً عاماً يزخر بالدلالات بمعزل عن السياق التاريخي الذي يقتضي تغيراً في الخطاب(8)، ويعد المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد من أهم أتباع فوكو لأن هذه الصيغة المنطقية المتوازنة الواقعية تتيح له، وهو صاحب قضية، ربط نظرية الخطاب بالصراع السياسي على مستوى الفكر والممارسة.

وقد اعتبر “جورج لوكاش” أن الأدب انعكاس للحياة أو الواقع في إطار السياق الاجتماعي والتاريخي(9)، وفي إطار هذا التصور يتحدث طه حسين: “فلا يكون الأدب أدباً حتى يصور حياة الناس، وليس في الأرض أدب إلا وهو يصور حياة أصحابه (مؤلفيه)، فكل أدب في أي أمة، لا بد أن يصور واقعها وشعورها وذوقها وثقافتها وأنماط تفكيرها وهو في النهاية انعكاس صور الحياة في نفوسها.”(10)

ولذلك فإن البنيوية لا تغطي كلية النصوص الشعرية ولا يصلح المنهج البنيوي وحده للإجراء النقدي إلا بتكامله مع المنهج التكويني الذي اقترحه “لوسيان غولدمان” وقد أدرك خطورة الموقف الذي يقودهم إليه بارت بعزله للمؤلف والسياق عن البنية اللغوية المكتفية بذاتها، وقد زاد من قناعته بخطورة المنهج البنيوي انتماؤه السياسي والفكري الماركسي الذي يرفض الترف الشكلاني البنيوي في النظرة اللغوية المجردة إلى النصوص لقد دعا “غولدمان” إلى ربط البنية النصية الداخلية بحركة التاريخ الاجتماعي والسياق الثقافي، ودمج بين أقانيم النص الثلاثة: الشكل والبنية والسياق، ورأى أن رؤية العالم تشكل مع البنية ذات الدلالة وحدة متكاملة، وذلك يفترض الانتقال من رؤية سكونية يفرضها ثبات البني اللغوية إلى رؤية دينامية شاملة ومتماسكة حتى نستطيع الإحاطة بالنص من جميع زواياه.(11)

ثم طور التفكيكيون وعلى رأسهم “جاك دريدا” مبدأ انتفاء القصدية من المؤلف وظلال السياق إلى فوضى التفسير المتمرد على فضاء التأويل “فقصد المؤلف غير موجود في النص والنص نفسه لا وجود، وفي وجود ذلك الفراغ الجديد الذي جاء مع موت المؤلف وغياب النص تصبح قراءة القارئ هي الحضور الوحيدة لا يوجد نص مغلق ولا قراءة نهائية، بل توجد نصوص بعدد قراء النص الواحد، ومن ثم تصبح كل قراءة نصاً جديداً مبدعاً.”(12)

وهكذا انتقل نقاد التفكيك من رفض تصور البنيوية ونظامها اللغوي في تحقيق المعنى إلى قدرة القارئ على تحقيق المعنى الذي يراه في رؤى لا نهائية عند كل قراءة جديدة للنصوص. وهكذا ينتقلون من اللامعنى إلى اللانهائية وكلا المنهجين متطرفان في نظرتهما إلى أطراف العملية الإبداعية.

يشير “روبرت هولاب” صاحب نظرية التلقي إلى أن كلاً من المعنى والبناء ينتجان من تفاعل القارئ مع النص، الذي يقارب العمل الفني بتوقعات دلالية مستمدة من المعارف التراكمية المشتركة والسياقات الثقافية والاجتماعية المتداخلة، أو ما يسمى “أفق التوقعات”، هذا الأفق بمثابة القواسم الدلالية المشتركة بين المؤلف والقارئ وهو الذي يحكم حركة المتناصات”إن التناص كالمؤلف تماماً لا يكتسب وجوده إلا مع وعي المتلقي به، لنتصور مثلاً ما يحدث على مستوى الأفق الاستبدالي داخل النص من مفردات وصور ليست موجودة داخله، ولكنها بدائل كان من الممكن للمؤلف أن يستخدمها وهي في غيابها حاضرة في تحديدها للوحدات التي استخدمت بالفعل في السياق، وإذا لم يكن القارئ معداً واعياً بهذه البدائل على مستوى الاستبدال فلن يكون للتناص داخل العمل قيمة ومعنى.”(13)

لاشك أن الومضات التاريخية الموجزة السابقة قد أومأت ولم تفصل، وحددت المرجعيات النقدية الغربية لعلاقة النص بالمؤلف، بين مؤصل لموت المؤلف، ومنظر لاستحالة تغييب النص عن قائله، وأنه لا استغناء عن خارج النص لتحديد معالم دواخله واستكشاف دلالاتها وجمالياتها، ولعل النعوت التي أطلقها الناقد الفرنسي “ريمون بيكار” في كتابه “نقد جديد أم تدجيل جديد” الذي صدر عام 1965 عن رولان بارت ومقولته عن موت المؤلف مسمياً هذه الرؤى بالمخاتلات الفكرية والسخافات والاستدلالات الزائفة ما يدل على سقوط هذه المقولة منهجياً وفلسفياً ومنطقياً.

الهوامش:

  • رمضان بسطاويسي محمد: الجميل ونظريات الفنون، كتاب الرياض رقم 25/26 (الرياض، 1406) ص349.

  • انظر روجيه جارودي: البنيوية فلسفة موت الإنسان ترجمة جورج طرابيشي، بيروت، دار الطليعة، 1985، ص83.

  • انظر رولان بارت: موت المؤلف ترجمة عبد السلام العالي، مجلة المهد العدد السابع السنة الثانية، عمان، 1985، صص10-12.

  • انظر رولان بارت: النقد والحقيقة، ترجمة إبراهيم الخطيب، الرباط، الشركة المغربية للناشرين المتحدين، 1985، ص103.

  • رولان بارت: موت المؤلف، ص13.

  • محمد الهادي المطوي: في التعالي النصي، المجلة العربية للثقافة، السنة 16 العدد 32، تونس، 1997، ص187.

  • رولان بارت: النقد والحقيقة، ص87.

  • انظر رامان سلدن: النظرية الأدبية المعاصرة، ترجمة جابر عصفور والقاهرة، الهيئة المصرية لقصور الثقافة، 1996، ص186.

  • رمان سلدن: النظرية الأدبية المعاصرة، ص67.

  • بتصرف طه حسين: تجديد ذكرى أبى العلاء، القاهرة، دار المعارف، ص22.

  • لوسيان غولدمان وآخرون: البنيوية التكوينية والنقد الأدبي، ترجمة محمد سبيلا، بيروت، مؤسسة الأبحاث العربية، 1986، ص46.

  • عبد العزيز حمودة: المرايا المحدبة من البنيوية إلى التفكيك، الكويت، عالم المعرفة، 1998، ص59.

  • عبد العزيز حمودة: المرايا المحدبة، ص343.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى