وجهة نظر

نحو تحويل نقدي للقرار الأممي 2797: من التلقي التأويلي إلى بناء المشروعية الديمقراطية

مصطفى المنوزي
جاء المقال المنشور بعنوان «لماذا لا يشكل قرار الأمم المتحدة انتصارًا حاسمًا للمغرب في الصحراء الغربية؟» لأكاديمي من الجارة الشرقية الشقيقة ، كقراءة تأويلية تسعى إلى نزع الشرعية عن المقاربة المغربية من داخل منطق القانون الدولي، معتبرة القرار الأممي رقم 2797 مجرد نص غامض يؤجل الحسم ويعيد إنتاج “اللاحلّ”.
هذه المقاربة، وإن استندت إلى أدوات تحليل دقيقة في ظاهرها، فإنها تُخفي خلف لغتها الموضوعية تصورًا استعلائيًا يجعل من الشرعية الأممية سلطة مطلقة، ومن الإرادة الوطنية مجرد رد فعل دعائي.
لكن القراءة التحويلية لا تنطلق من النص الأممي كمصدر للمعنى، بل من التحول الداخلي الذي عرفه المغرب في مقاربته للملف. فالقضية لم تعد صراعًا حول الحدود، بل مجالًا لاختبار قدرة الدولة والمجتمع على إنتاج المشروعية من داخل تجربتهما الخاصة. ليست المسألة إذًا في ما قاله مجلس الأمن، بل في ما أنجزه المغاربة في تحويل شرعية الدفاع إلى شرعية بناء، وفي الانتقال من منطق التبرير الدبلوماسي إلى منطق التمكين الديمقراطي.
إن القرار 2797 لا يُقرأ كمنحة دولية بل كمرآة لمسار وطني يتجاوز لحظة الاعتراف الخارجي نحو لحظة المأسسة الداخلية. فالمغرب، عبر ترسيخ نموذج الحكم الذاتي في إطار دولة الجهات، لا يطلب مصادقة العالم بقدر ما يراكم شروط السيادة الديمقراطية القائمة على العدالة المجالية والمواطنة المتوازنة. فحين تتحول الصحراء إلى مختبر للحكم الرشيد، يصبح الاعتراف الدولي نتيجة منطقية لا شرطًا مسبقًا.
القوة في المقاربة المغربية لا تكمن في قدرتها على إقناع الخارج فقط، بل في إعادة تعريف الشرعية الوطنية بما يجعلها قابلة للمساءلة والمشاركة. فكل ما هو قانوني لا يستمد معناه من الوثيقة وحدها، بل من الفاعلين الذين يُحوِّلون النص إلى ممارسة. لذلك فإن ما يعتبره البعض “انتصارًا سرديًا” ليس وهماً، بل لحظة انتقال من سردية الدفاع إلى سردية البناء، حيث تُعاد صياغة المفاهيم السيادية في أفقٍ مدنيٍّ تشاركي.
التحليل التأويلي الذي يقرأ في القرار غموضًا، يتغافل عن أن هذا الغموض نفسه هو ما مكّن المغرب من المناورة الذكية في فضاء معقد، فحوّل منطق “الإدارة الأممية للنزاع” إلى مجال لإدارة التحول الداخلي. ذلك أن القرار، من منظور التحويل النقدي، لا يُكرّس اللاحسم بل يفتح إمكانية تحويل الاستقرار إلى مشروع تنموي، والانتظار إلى بناء مؤسساتي متدرج. إنها مفارقة الخصوبة: أن نُحوِّل ما يبدو تأجيلًا دوليًا إلى تراكم وطني.
من هنا وجب أن نُحصّن هذا المكتسب التاريخي لا دفاعًا عن الدولة بوصفها جهازًا سلطويًا، بل دفاعًا عن المقاربة التي جعلت من الحكم الذاتي أفقًا للدمقرطة لا مجرد أداة للتفاوض. فالمعركة لم تعد حول من له الحق في السيادة، بل حول كيف نمارس السيادة بوصفها مسؤولية مشتركة بين الدولة والمجتمع. إن الشرعية المغربية لا تُبنى ضد القانون الدولي، بل تتقاطع معه من موقع الفعل لا التبعية، حين تُدرج قيم المشاركة والعدالة في بنية القرار الوطني ذاته.
ولعل التحدي الأعمق اليوم هو في تحرير الدولة من تبعياتها غير المنتجة: تلك التي تربط الأمن بالتخوف، والتنمية بالتبعية، والسيادة بالاحتكار. فالمطلوب ليس أن ندافع عن الدولة كما هي، بل أن نساعدها على تحرير نفسها من ذهنيات الوصاية والتدبير الميكانيكي، لكي تصبح الدولة الوطنية فاعلًا عقلانيًا ومسؤولًا في التاريخ. عندئذٍ فقط يغدو الحكم الذاتي ممارسة ديمقراطية متكاملة لا بندًا تفاوضيًا، وتتحول الصحراء من ملف سياسي إلى مجال لبناء نموذجٍ جديد للتماسك الوطني.
إن القرار الأممي، من هذا المنظور، ليس نقطة وصول بل بداية تحول. إنه اختبارٌ لمدى قدرتنا على تحويل الاعتراف الدولي الجزئي إلى مشروعية ديمقراطية كاملة. فالمغرب لا يحتاج إلى أن يربح السردية في الخارج، ما دام قادرًا على ربحها في الداخل عبر بناء الثقة بين الذاكرة والمستقبل، وبين الدولة والمجتمع. عندئذٍ فقط يصبح الدفاع عن الصحراء دفاعًا عن وحدة وطنية متصالحة مع ذاتها، وعن سيادةٍ تُقاس بمقدار ما تُنتج من عدالة، لا بما تُكرّسه من غلبة.
وليست الحقيقة والمصالحة سوى المدخل الواسع والميسّر لكل حل عادل وديمقراطي؛ فبها تُستعاد الثقة، ويُستأنف المعنى الوطني في مساره التاريخي. ومن هنا وجب أن نواصل ردّ الاعتبار لحلقاتنا المفقودة في المسلسل التحرري الوطني والديمقراطي، حتى لا يظل الحكم الذاتي مجرّد خيارٍ ترابي، بل يصبح تتويجًا لمسار طويل من تحرير الذاكرة وإعادة تأسيس العقد الاجتماعي المغربي على قاعدة العدالة والمواطنة المتوازنة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى