وجهة نظر

الجولاني على حافة الهاوية: عندما تصبح زيارة البيت الأبيض إنجازا

• عندما قال الأسد لكلينتون: أريدُ أن أجلس على طرف طبريا وألمس ماءها بقدمي
• الرئيس السوري الأسبق رفض خمس دعوات لزيارة واشنطن قبل تحرير الجولان

إدريس عدار

لا يمكن أن تكشف تصرفات الجولاني عن أي شيء لمن كان يراقب ببصيرة مسيرته منذ أن كان إرهابيا مكشوفا إلى أن دخل “صالون الحلاقة” الأمريكي وخرج باسم يجهل السوريون وجوده، لن يفاجأ اليوم بسلوكات رجل “القاعدة” سوى من كان مساندا له أو حاقدا على الأسد أو جاهلا بقواعد اللعب فوق هذه الجغرافيا.
وليس الغريب أن ينقلب على كل ما قاله في السابق، لأن أهدافه كانت مرسومة في غرف هي من أشرفت على “الثورة اللقيطة” في سوريا، ولكن الغريب أن كثيرا من المثقفين انساقوا وراء دعايات “الإخوان المسلمين” وجماعات “الإسلام السياسي” الأخرى، وساندوا الحركات الجهادية تحت عنوان “دعم ثورة الشعب السوري”، وتسابقوا للتبشير بنسائم الحرية التي هبت على دمشق يوم الثامن من دجنبر من السنة الماضية.
وبعد أن تم تمكين هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة/فرع تنظيم القاعدة) من الحكم بدمشق، في إطار ترتيبات دولية فاقت توقعات اللاعبين الإقليميين مثل تركيا، سقطت دمشق في يد الإسرائيلي، حتى لو لم يدخلها فهي تعد اليوم في حكم الساقطة ناريا، إذ لم تعد تتوفر سوريا على أي نوع من السلاح غير السلاح الذي يمكن بواسطته قتل أبناء الطوائف الأخرى، وتمكنت من تحقيق كل ما رامته تاريخيا دون أن تصل إليه.
واليوم أصبح مجرد الذهاب إلى البيت الأبيض إنجازا عظيما، وهذا ما كتبت عنه الأقلام ورددته الألسن من كون الجولاني أول رئيس سوري يزور الأبيض، وكأن هذه الزيارة هي المبتغى والهدف، حتى لو كانت الزيارة رمزيا تحمل كل معاني الذلة، وعرضا مفتوحا لترامب للاستثمار في الغاز السوري.
كانت عين الأمريكيين على زيارة حافظ الأسد للبيت الأبيض، لأنهم كانوا يبحثون عن سلام بين سوريا وبين إسرائيل، وللأسف الشديد سردية الإخوان، التي تبعها بعض اليسار، تقول إن الأسد “باع الجولان”، رغم أن محاولات جر سوريا للتنازل عن بضعة كيلومترات كانت متواصلة على امتداد الزمن، لكن الجولاني الذي لم يعد يتحدث عن الأراضي السورية التي تم احتلالها بعد الثامن من دجنبر لا يتحدث عنه أحد، ويسميه البعض صلاح الدين الشام.
وهل كانت زيارة الأسد إلى البيت الأبيض يحجبها حاجب غير رفض الرئيس السوري حافظ الأسد لقاء أي رئيس أمريكي إلا في دمشق أو في بلد محايد، وهكذا التقى ريتشارد نيكسون يوم 15 يونيو 1974 بدمشق، وفي عام 1994 التقى بيل كلينتون في دمشق أيضا، والتقى جيمي كارتر سنة 1977 وجورج بوش الأب سنة 1990 وكلاهما بجنيف.
تحكي بثينة شعبان مستشارة بشار الأسد في كتابها “حافة الهاوية”، وهو كتاب اعتمدت فيه وثائق القصر الرئاسي، عن أول لقاء بين حافظ الأسد وكيسنجر، وكان أول سؤال طرحه هذا الأخير عن أهم موضوع يريد الحديث عنه فرد “العدوان الإسرائيلي المستمر والموقف الأمريكي منه”، فسوريا كانت تعرف أن أمريكا هي ربة الاعتداء لكن بقلعتها المتقدمة في الشرق الأوسط.
وتحكي بثينة شعبان أنه أثناء الحديث بينهما قبيل مؤتمر جنيف للسلام قال الأسد لكيسنجر بوضوح “لم تكن سوريا عدوا للشعب الأمريكي، ولكن عندما يتعلق الأمر بالشرق الأوسط، وتحديدا بالقضية الفلسطينية، فإننا لا نتفق إطلاقا مع حكومة الولايات المتحدة الأمريكية”، ورفض الأسد تصديق أن الولايات المتحدة بكل نفوذها لا تستطيع إيقاف سطوة اللوبي الصهيوني على السياسة الأمريكية.
وإن كانت المقارنة أحيانا لا تليق لكن للضرورة ولضيق العبارة لابد منها: الجولاني يقول اليوم إن لدى أمريكا وسوريا مصالح مشتركة. أي مصلحة بين السيد والعبد؟
تضيف بثينة “كانت الحقيقة الجوهرية والمسلم بها في سياسة الأسد، والتي بقي مخلصا لها حتى آخر أيام حياته، هي أن سوريا لن تتنازل إطلاقا عن سيادتها ولا عن أي بوصة من أراضيها. لقد أكد ضرورة استعادة كل الأراضي التي احتلتها إسراءلي، دون أي تنازل عن أي جزء منها. وأضاف أن ادعاء إسرائيل بأنها ستتراجع إلى “حدود آمنة”، لا إلى ما قبل حدود 1967، غنما هو خدعة قائلا لكيسنجر: لا يحتاج المرء إلى ذكاء خارق لإدراك أن لا وجود لحدود آمنة في هذا العصر”.
وتساءل الأسد: لماذا ينبغي أن تكون هذه الحدود الآمنة على حساب العرب؟ لماذا تكون في مرتفعات الجولان ولا تكون في الجليل؟ معتبرا أنها ستكون في المنتصف بين تل أبيب ودمشق، فحاول كيسنجر أن يظهر مهارته قائلا: ماذا لو نقلت إسرائيل عاصمتها إلى حيفا؟ أراد أن يقول يعني حينها لن تكون في المنتصف فقال له الأسد: ننقل العاصمة إلى القنيطرة. فاعتدل كيسنجر وقال له: كانت هذه الفكرة مجرد مزاح.
وتنقل بثينة شعبان قصة طريفة لكن فيها دلالات، غذ أن كيسنجر في أحد اللقاءات بدأ حديثه بدعوة الأسد لزيارة البيت الأبيض، الذي قال ممازحا إن ذلك من شأنه أن يحسن لغة الأسد الإنجليزية. وتضيف بثينة أنها اكتشفت لاحقا، لدى عملها مترجمة خاصة في التسعينات مع الأسد، أنه كان يفهم الإنجليزية، لكنه كان يرفض التحدث بها ليؤكد هويته العربية. غير أنه لم يتردد يوما في المساعدة على تصحيح أي كلمة أثناء قيام جلمال هلال، مترجم كلينتون، . لم تكن لدى الأسد أية رغبة في زيارة الولايات المتحدة الأمريكية ما دام موقف واشنطن منحازا للإسرائليين. لم يجر أي رئيس سوري زيارة مماثلة ولن يكون حافظ الأسد أول رئيس يزروها ما بقيت مرتفعات الجولان رازحة تحت وطأة الاحتلال. لقد قدم رؤساء أمريكا، ابتداء بكارتر وانتهاء بكلينتون، ومرورا بجورج بوش الأب، دعوات مشابهة للأسد الذي كان يرفض بأدب تلبيتها تماما كما فعل مع نيكسون وكيسنجر عام 1974.
في يونيو 1974 زار الرئيس الأمريكي نيكسون حافظ الأسد وبعد الاستراحة في قصر الضيافة ذهب إلى منزل الأسد في زيارة عائلية رفقة زوجته، وتنقل بثينة أن أحد أبناء الأسد همس في أذنيه “أليس هذا نيكسون الذي يعطي السلاح لإسرائيل؟”.
وكانت هذه المرة الثانية، التي يقوم فيها رئيس أمريكي بخرق عرف لدى واشنطن هو ألا يزور رئيس أمريكي دولة ليست بينهما علاقات ديبلوماسية.
وكان كيسنجر يجلس إلى جنب رئيس بلاده، وهو يعرف أن الأسد لن يرضى بمجرد إطار كما رضي السادات، وهذه الأمر الذي ذكرته بثينة في كتابها تحدث عنه أيضا كيسنجر في مذكراته وفي محاضراته أيضا.
وثائق المفاوضات التي نشرتها بثينة يمكن مقابلتها بالوثائق المفرج عنها من قبل الجهة الأخرى، قد يكون هناك اختلافات في كثير من الأمور، لكن الإطار العام يسجل أن حافظ الأسد كان مفاوضا مختلفا.
يقول هنري كيسنجر “فردتُ عضلاتي الثقافية والسياسية أمام الرئيس حافظ الأسد، ورحتُ أستعرض أحداثاً تاريخية وسياسية لساعتين، والرئيس يصغي بكل اهتمام ودون أن ينبس بكلمة، عندما انتهيت؛ أعطاني محاضرةً استمرت حتى الخامسة صباحا”.
أما الرئيس الأسبق كلينتون الذي وصفه بأنه قاس وذكي فقد قال “أهديتُ الأسد ربطة عنق زرقاء عليها صورة أسد، فهم ما أقصدهُ وقبلها مبتسماً، وكنت أعني بها الإبقاء على شريط حول بحيرة طبريا تسيطر عليه إسرائيل، وستعود الجولان كاملة لسوريا، لكن قال لي بحزم: أريدُ أن أجلس على طرف طبريا وألمس ماءها بقدمي”.
ليس مهما أن تزور البيت الأبيض أو بيت آخر لكن هل يمكن أن تناور لتحافظ على سيادة بلدك. بينما كان الأسد يرفض مقترحات هي اليوم بعيدة المنال، ويرد على مزحة كينسجر طالبا أن تكون الحدود الأمنية في الجليل وليس في الجولان، أصبحنا اليوم نتحدث عن اتفاق أمني على أبواب دمشق.
وبالمناسبة فدمشق تعتبر اليوم محتلة، لأنه في علم العسكرية كل مدينة سقطت ناريا تعتبر في حكم المحتلة يمكن دخولها في أية لحظة، بينما لا يمكن القول إن جنوب لبنان سقط ناريا لأنه على امتداد 66 يوم وبحوالي 70 ألف جندي لم يتقدم الاحتلال رغم توحشه في الحرب الجوية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى