جيل مارماس: هيجل ومغالطات العقل الخالص (الحلقة السابعة والأخيرة)

ترجمة: أحمد رباص
في الروح، تحكم الأنا الداخلية الذات الخارجية وتعبر عن نفسها داخلها:
“يجب أن يُنظر إلى الروح بشكل أساسي في فعاليتها الملموسة، وفي طاقتها، وبطريقة تُعرف فيها تجسيدات هذه العناصر بحيث تكون محددة من خلال باطنها”.
من هذا النص القصير، نستنتج، انسجاما مع قولنا، أن الروح متجسدة جوهريا، لكن وجودها الفعلي ليس عبء يُضعف من طابعها الروحي. بالعكس، فلأنها تحكم بسيادة، تتجلى روحانيتها في وجودها الخارجي.
د) بالنسبة لكانط، تقود الميتافيزيقا التقليدية إلى المثالية، بمعنى أنها تفترض أن وجود شيء حقيقي خارج الذات لا يُعطى مباشرةً من قبل الإدراك. ومع ذلك، بما أن هذا الوجود يُستنتج فقط كسبب للإدراك، فقد يكون مشكوك في أمره. يرفض كانط هذه المثالية “الإشكالية”، التي ينسبها في المقام الأول إلى ديكارت، باعتبار أن حقيقة المظاهر الخارجية تُعطى مع التمثلات نفسها. في الواقع، ووفقا للإستيطيقا المتعالية، فإن الأشياء في المكان ليست منفصلة عن التمثلات التي لدينا عنها. هكذا، يتم التحقق من صحة الواقعية التجريبية: “كل إدراك خارجي هو دليل مباشر على شيء حقيقي في المكان، أو بالأحرى، هو الواقع نفسه، وإلى هذا الحد تكون الواقعية التجريبية غير قابلة للنقاش”. كما نعلم، يدافع كانط مع ذلك عن مثالية “متعالية” تُصر على الطابع القبلي للمكان والزمان وعلى الوضع الفينومينولوجي المحض لموضوعات المعرفة.
من جانبه، لم يتناول هيجل مشكلة حقيقة العالم الخارجي في نقاشه مع كانط بشأن الروح. ولكن من المثير للاهتمام أن نلاحظ أن المثالية التي يتبناها تعني أن الأشياء المحدودة حقيقية وأنها تابعة للفكرة ككلية محددة تحديدا ذاتيا. بمعنى آخر، إذا لم توضع الأشياء المحدودة موضع شك، إلا أنها لا تستطيع مقاومة الفكرة. لكن أحد أشكال الفكرة هو العقل، الذي يمكنه دائما التأثير على إلغاء (Aufhebung) موضوعه، بواسطة المعرفة أو الإرادة (أي بالفعل أو بإنشاء معيار عملي). بالنسبة إلى هيجل، يكون المحدود غير متسق في مواجهة اللامتناهي، لأن اللامتناهي يتلخص في إعطاء معنى للأشياء – ولا شيء يمكن أن يقاوم أن يُنقش داخل معنى عام. المثالية، عند هيجل، ليست مبدأ شك بل مبدأ توحيد التجربة. المثالية الهيجلية ترقى إلى “نسبية” الواقع المحدود وإثباته، لأنه هو الذي تعبر فيه الفكرة عن نفسها. إن إرث كل من الواقعية التجريبية والمثالية المتعالية موجود. ومع ذلك، فإن المثالية الهيجلية ليست مجرد نظرية فلسفية. يتعلق الأمر بعملية تجريبية من حيث انها تميز الطريقة التي ترتبط بها الفكرة، وخاصة الفكرة كروح، بالمحدود. مثلا، يدحض فعل التملك نفسه الاستغناء المفترض عن الأشياء، بحيث يمكن لهيجل أن يكتب هنا أن “الإرادة الحرة هي المثل الأعلى […] لمثل هذه الفعالية”. تشهد المثالية الهيجلية على نفسها في عالم التجربة.
هـ) أخيرا، ماذا عن موقف هيجل من خلود الروح، عقدة المشكل؟ النصوص غامضة. فخلود الروح يُؤكّد عليه باستمرار في النصوص، ولكنه يُعامل كمجرد تمثل، أي كمعرفة ناقصة. علاوة على ذلك، تجدر الإشارة إلى أن هيجل لم يذكر شيئا عنه في القسم المخصص للروح الذاتية. فهو لا يُقدّم خلود الروح كأطروحة فلسفية يتبناها، بل كعقيدة جديرة بالدراسة، موجودة في ديانات عديدة، وتجد تعبيرها الأكمل في المسيحية.
بالعودة إلى موضوع التشيؤ، يأسف هيجل على أنه عند مناقشة خلود الروح، هناك ميل لمعاملته كشيء يُعد الفكر خاصيةً له – خاصية يمكن أن تزول دون أن تختفي الروح نفسها. ويشير إلى أن أفلاطون كان له الفضل، من ناحية أخرى، في إدراك أن الفكر ليس خاصيةً بل جوهر الروح ذاته، وأنه نشاطٌ شمولي. إن خلود الروح، المُتصوَّر “بالارتباط بطبيعة التفكير، وبالحرية الداخلية للتفكير”، يعني إذن أنها مُتأصلة في كل شيء
في دروسه حول فلسفة الدين، يتناول هيجل نفس الموضوع. عندما نقول أن الروح خالدة، فإننا نميل إلى أن ننسب إليها صفة مستقبلية محتملة: على وجه التحديد، الدخول إلى عالم الخلود. لكن الخلود في الواقع هو صفة حاضرة للروح، والتي، علاوة على ذلك، لا ينبغي فهمها على أنها ديمومة غير محددة. إنها تعبر عن العلاقة التي تحرر بها الروح نفسها من الطبيعية والعرضي للارتقاء إلى وجهة نظر كونية والتصالح مع كل ما هو: “الخلود ليس مجرد ديمومة، بل معرفة، ومعرفة بما هو أبدي”. إن الإيمان بخلود الروح ليس سوى تمثل لأنه يسقط بشكل غير ملائم في مستقبل غير محدد ما هو صفة حاضرة للروح. ومع ذلك، فهو صحيح لأنه يعبر عن ارتقاء العقل إلى معرفة المطلق: “إن تمثلات الله وخلود الروح لها علاقة متبادلة ضرورية: عندما يمتلك الإنسان معرفة حقيقية بالله، يمتلك معرفة حقيقية بنفسه؛ يتوافق الجانبان”. كعقل محدود ومفرد تجريدي، أنا فانٍ. لكنني أخلّد نفسي بالارتقاء إلى العقل المطلق، وخاصة إلى المعتقد الديني.
في نهاية المطاف، يُبرز النقاش حول الروح أصالة نهج هيجل. وإذا كانت هناك حاجة إلى مزيد من الأدلة، فإنه يؤكد رفض هيجل للميتافيزيقا ما قبل الكانطية. ويشارك مؤلف “الموسوعة” سلفه في المطالبة بفلسفة قائمة على التجربة الفعلية، ورفض أي استنتاج مجرد لخصائص الروح، والحرص على عدم اختزال نشاط الروح في تحديد جوهري. وفي الوقت نفسه، لا يقترح توسعا في المنظور المتعالي. ويهدف بحثه في الروح إلى تفسير ليس شروط موضوعية المعرفة، بل الأفعال الملموسة للروح الذاتية كما يضع نفسه في وضع معطى التجربة. وتقدم فلسفة هيجل للروح نشأة – مع ذلك، نشأة ليس لقدرات العقل بل لمحتوياته. فبالنسبة إلى هيجل، لا ينبغي تصور العقل كذات قادرة على الفعل فحسب، بل كذات فاعلة بالفعل.
ربما تُمثل نظرية هيجل القائلة بأن العقل يكشف عن ذاته تماما من خلال أفعاله قوةً وضعفا في آنٍ واحد. فمن جهة، تُتيح لنا نبذ أي كيان ميتافيزيقي خفي. ومن جهة أخرى، تُنسينا أن النفس البشرية لا تظهر على حقيقتها، بل حتما من منظورٍ مُحدد وضمن خطابٍ مُحدد. لا شك أن العقل في اللحظة الأنثروبولوجية لهيجل لم يُدرك ذاته بعد. ولكن هذا لأنه ما يزال مباشرا وغير قادر على التأمل الذاتي، وليس لأن مظهره مُصممٌ بطريقةٍ ما. يُعارض هيجل فكرة الأنا التي لا تكون خالصةً وبسيطةً كما تُعبر عن نفسها. ومن سمات الهيجلية، بشكلٍ عام، رفضها أي شكٍّ في التجربة الكونية. مهمة الفلسفة هي التفكير في التجربة، أي بالتالي في الطريقة التي تقدم الروح (أو العقل) ذاتها. لربما نتمنى، في الحقيقة، لو أنه تعمقنا في هذه التجربة.
المرجع: https://shs.cairn.info/revue-archives-de-philosophie-2014-4-page-567?lang=fr


