ما كُشف في هذه الأيام لم يكن في نظري غريبا ولا مستنكرا. وقد قلت غير مرة إني لا أستغرب من هؤلاء القوم، لأنهم في الأصل أول من يتصدرون المشهد في البداءة، وأول من يتكفلون بنشر فضائح المجتمع بدل فضح الفاسدين الحقيقيين الذين طغوا في البلاد وأكثروا فيها الفساد. فكيف يُرجى من لسان اعتاد البذاءة أن ينطق بالحكمة، وكيف يُنتظر من قلم مرتهن للهوى أن ينتصر للقيم؟
ولست، في الأصل، ممّن يميل إلى الخوض في مثل هذه المعارك حين تتساقط الأقنعة، لكن ما وقع لم يكن سوى صفحة أخرى من كتاب قديم بدأت فصوله قبل هذا التسريب بسنوات. فماذا ننتظر من جماعة راكمت الشحَّ الأخلاقي حتى صار عنوانا لها، وتماهت مع الابتذال حتى أصبح جزءا من هويتها المهنية؟ لقد سقطت الهيبة منذ أن صار العري القيمي زينة عندهم، وصار التشهير بالضعفاء بطولة إعلامية إنجازا يفتخرون بها، وغض الطرف عن فساد الكبار حكمة.
وشهادة تلك الصحفية النجيبة في التحليل، المنتمية إلى جسم الصحافة يا حسرة، التي تحدثت عن علاقة تتجاوز ثلاثين سنة بين أفراد تنطبق عليهم هذه الحكمة الشعرية: وغيرُ تقيٍّ يأمرُ الناسَ بالتقى، طبيبٌ يداوي الناسَ وهو عليل؛ وهكذا حالُ تلك الفئة التي نصّبت نفسها أوصياء على الأخلاق، وهي أوْلَى الناس بمراجعة ذواتها قبل توجيه سهام النقد إلى غيرها. يُشيّدون خُطب الوعظ فوق رمال هشّة، ويتصدّرون مجالس الفضيلة بوجوه مستعارة، بينما قلوبهم خربة من الداخل، وأفعالهم شاهدة على ما فيهم من نقص. يعظون الناس بما لم يستطيعوا هم أنفسهم الوفاء به، ويُكثرون الحديث عن التقى والزهد، كأنهم أنبياء منزَّلون، وما هم إلا بشر ابتُليت سرائرهم بالاعوجاج، وافتضح أمرهم عند أول اختبار.
فمثل هؤلاء لا يُلتفت لخطابهم، ولا يُقاس الناس بموازينهم، إذ فاقد الشيء لا يعطيه، ومن لم يصلح نفسه لن يصلح غيره. وما حدث لم يكن إلا مفتاحا لفهم هذا الانحطاط المتراكم. يا للعجب، كيف لرجل بلغ أرذل العمر أن يتلفظ بما لا يليق في حضرة امرأة دون أن ترتجف ملامحه خجلا، ودون أن تهتز في داخله بقية حياء؟ وكيف للجالسين إلى جواره أن يستقبلوا السقوط بصمت مطبق لا يوحي إلا بأن البذاءة عندهم عُرف مستقر، وأن الانحطاط جزء من الممارسة اليومية؟
وهنا تلوح أمامنا حكمة كانط الذي جعل الأخلاق قانونا داخليا يسبق كل تشريع، فإذا انهار هذا القانون الداخلي لم يعد الإنسان سيدا لنفسه، بل أسيرا لنزواته. ويطل علينا كامو بتحذيره القديم بأن لحظة سقوط الإنسان تبدأ يوم يعتاد القبح دون احتجاج. وهذا ما رأيناه حرفيا: وجوه هادئة، عيون جامدة، وأخلاق تسقط سقوطا حرا أمام عدسة بسيطة.
إن هذا التسريب لم يفضح فردا بعينه، بل فضح ثقافة كاملة، وبنية مترهلة من السلوك الرديء الذي جمعهم على مائدة واحدة، وتحت سقف لجنة يفترض أنها حامية لأخلاقيات المهنة فإذا بها أول من لوّثها وخان شرفها. وما قاله نيتشه يصلح لتوصيف ما نراه اليوم: حين يغيب العمق الأخلاقي تتحول المهن إلى مجرد واجهات، وتتحول الشعارات إلى أقنعة لا أكثر.
وليس غريبا أن تشهد قطاعات أخرى عللا مشابهة، فحين ينهار معيار القيم في قطاع يُفترض أنه صوت الحق والحقيقة، فكيف ببقية القطاعات التي تختفي فيها الحقائق خلف جدران مغلقة؟ ولعل كلمة شوبنهاور تختصر المشهد: الفساد الأخلاقي لا يبدأ حين يخطئ الإنسان، بل حين يصبح الخطأ جزءا من طبائعه.
لهذا كله، وجب إعادة النظر فيمن نضع بين أيديهم مفاتيح التدبير ومسؤولية توجيه الرأي العام. فالمسؤولية اليوم لم تعد تتعلق باختيار أشخاص، بل باختيار منظومة قيم تعلو على الأهواء. ولأن الوطن لا يحتمل مزيدا من الزيف، فلا بد من غربلة دقيقة تعيد للمعايير هيبتها، وللاستقامة اعتبارها، وللأخلاق مكانتها التي ضاعت بين ضجيج التمثيل وخراب الضمائر.
ويبقى الزمن كفيلا بكشف بقية الوجوه، وما ظهر اليوم ليس سوى أول الخيط.