المغرب في قلب التحولات الإقليمية… كيف يواجه الداخل ارتدادات الخارج؟ د. كريمة الصديقي .

يعيش المغرب اليوم في منطقة إقليمية شديدة الاضطراب، تعاد فيها صياغة التحالفات، وتتغير موازين القوى، وتتداخل فيها المصالح الاقتصادية والدبلوماسية بشكل غير مسبوق. ومع هذا المشهد المتسارع، لا يمكن الحديث عن استقرار داخلي دون فهم عميق لما يجري خارج الحدود. فالمغرب، بموقعه الجغرافي الاستراتيجي بين إفريقيا وأوروبا، لا يملك ترف العزلة، وكل تحول إقليمي ينعكس عليه بشكل مباشر.
أول هذه التأثيرات يبرز في الجانب الاقتصادي. فارتفاع أسعار الطاقة عالميًا، والتوترات التجارية، وتقلبات الأسواق الدولية، كلها عوامل تثقل كاهل القدرة الشرائية للمغاربة. كما تتأثر القطاعات الحساسة مثل الفلاحة والصناعة والسياحة بتحولات الإقليم، سواء بسبب تغيّر سلاسل التوريد أو المنافسة الإقليمية أو الأزمات العالمية التي تدفع المستثمرين إلى إعادة حساباتهم.
ورغم الجهود الحكومية في دعم بعض المواد الأساسية وحماية الاقتصاد، يبقى المواطن المغربي هو المتأثر الأول بالتقلبات الخارجية.
ثانيا، ينعكس الوضع الإقليمي على الأمن القومي للمغرب. فالتوترات في منطقة الساحل والصحراء، وانتشار الجماعات الإرهابية، واشتداد المنافسة بين القوى الإقليمية، كلها تحديات تفرض على المغرب يقظة أمنية ودبلوماسية واسعة. وقد أثبتت السنوات الأخيرة أن الاستقرار الأمني لم يعد مرتبطا فقط بالحدود المباشرة، بل أصبح جزءا من شبكة معقدة من التحالفات والعمل الاستباقي، وهو ما جعل المملكة تستثمر في التعاون الاستخباراتي والعسكري مع شركاء دوليين وإقليميين.
أما على مستوى القضية الوطنية الأولى، الصحراء المغربية، فقد جعلت التحولات الإقليمية والدولية المغرب أكثر حرصًا على توطيد شراكاته الاستراتيجية. فالتقارب مع بعض الدول الإفريقية، والتحول النوعي في الموقف الأمريكي، وفتح القنصليات في الأقاليم الجنوبية، كلها عوامل تعزز الموقف المغربي، لكنها تتطلب أيضا دبلوماسية نشيطة وتواجدا قويًا في إفريقيا لمواجهة محاولات الخصوم استغلال أي تغيير إقليمي لصالحهم.
كما أن التحولات الإقليمية أعادت تشكيل التوازنات داخل المجتمع المغربي نفسه. فالمواطن أصبح أكثر وعيا بما يحدث حوله، وأكثر مطالبة بالشفافية وبربط السياسات الداخلية بالسياق الخارجي. فعندما تتغير أسعار المحروقات أو المواد الغذائية، يعرف المواطن جيدا أن الأمر متصل بأسواق عالمية واتفاقيات دولية. وهذا الوعي الجديد يدفع نحو مطالب أكبر بفعالية المؤسسات وبسلاسة التواصل الحكومي.
ورغم أن التحولات الإقليمية تحمل تحديات كثيرة، إلا أنها تفتح أيضا فرصا للمغرب. فالمملكة اليوم تمتلك موقعًا استراتيجيا يجعلها فاعلا مهما في الربط بين إفريقيا وأوروبا، كما أن استثماراتها في الطاقات المتجددة والهيدروجين الأخضر، وتطور بنياتها التحتية، تعزز مكانتها كشريك موثوق في المنطقة.
والدبلوماسية المغربية القائمة على التوازن والعمق الإفريقي والتواصل المتدرج مع القوى الكبرى تمنح البلاد قدرة على تحويل الأزمات الإقليمية إلى مكاسب استراتيجية.
يمكن القول إن المغرب، رغم صعوبة المرحلة، يملك مقومات قوية للتعامل مع التحولات الإقليمية. لكن النجاح الحقيقي يظل رهينا بمدى قدرة الدولة على حماية المواطن من ارتدادات الخارج، وتعزيز الجبهة الداخلية، وتطوير نموذج اقتصادي أكثر صلابة.
ففي عالم يتغير بسرعة، يظل الرهان الأكبر للمغرب هو أن يظل ثابتا في مساره، منفتحًا على العالم، وقادرا على جعل كل تحول خارجي فرصة لا تهديدا.


