توطئة
تعتبر المدارس العتيقة بشتى أشكالها وأنواعها الأمكنة الوحيدة للتربية والتعليم الديني و ينبغي الإشارة إلى أن نظام التربية والتعليم بالمغرب تعرض لهزة كبرى اعترته مع دخول الحماية على الرغم من أن التعليم الأصيل ظل يستعمل عددا من الكتب والمدونات والرسائل الفقهية ترجع إلى العهد المريني والوطاسي كما أنها مازالت تطبع ،إنشاء التلاميذ أو المحاضرية كما تسمى قديما ،في المدارس العتيقة اليوم . ويشكل هذا إرث ديني قد يدخل أحيانا في اللا وعي الجمعي عن طريق الأسرة الممتدة مثلا ويظل ما ثلا في الوعي الجمعي عن طريق استمرارية مؤسسات تربوية كانت الركيزة الأساسية في التربية وأبعدت من مركز القرار أو تهمشت بسبب سيادة وهيمنة مؤسسات أخرى مغايرة وطارئة نتيجة تدخل خارجي . وهذا ما حدث لمؤسسات التعليم في العالم العربي ، في العصر الراهن ، فقد ظلت هذه المؤسسات وعلى رأسها المسجد في طليعة المقاومة الفكرية والسياسية لمحاولات السيطرة العنيفة الوافدة قد تكون المدرسة العصرية التي بدأت تنتشر في كل ربوع المغرب بما فيها بوادي الجبل .وهي واجهة سلمية ولينة هيأت الطريق للتدخل والسيطرة كما أنها تدعي أنها حاملة رسالة العلم والحضارة والتقدم المحصورة بالتوقيع أو الختم الغربي ، لكن لا ينبغي أن يغيب عن أذهاننا أن الغرب حقق تقدما هائلا خلال القرن التاسع عشر بالخصوص نتيجة ما حققه من تطور على مستوى مناهج التعليم وتشجيعه للبحث العلمي المستقل فأفرز مؤسسة تعليمية عصرية قوية ومنظمة انتشرت في جميع أنحاء العالم فزاحمت نظاما تعليميا عتيقا جامدا ، يعتقد المشرفون عليه أن علوم الشريعة غايته القصوى هي محاربة الإلحاد والبدع لا إعداد ناشئة تساهم في نمو المجتمع ورقيه .ومع الغزو الأوروبي للبلدان العربية الإسلامية واحتلالها برزفي الفضاء التربوي التعليمي نسقان تعليميان مختلفان .نسق عصري ونسق تقليدي متهالك الأول حي والثاني يستند على حفظ المتون والمدونات والأراجيز والمختصرات ولا يولي اهتماما للعلو م البحثة من رياضيات ومنطق وعلوم طبيعية وإذا اهتم بالرياضيات فلحل مسائل الإرث ومواقيت الصلاة التي تعتمد على معادلات رياضية تدخل فيها متغيرات عديدة منها خطوط الطول ودوائر العرض والتوقيت المحلي ومعادلة الزمن …وليس من الغرابة في شيء أن يتفوق التعليم العصري على التعليم العتيق.إن معرفة مميزات وخصائص المدارس العتيقة بالمغرب يقتضي طرح اسئلة حول نشأتها الأولى وأصنافها وسبب انتشارها بالمدن العتيقة فاس نموذجا وهل المدرسة الحديثة امتداد وتطور للمدرسة العتيقة ؟ إذا سلمنا أن المدرسة الحديثة جذورها غير ممتدة في المدرسة العتيقة باعتبارها مؤسسة جديدة وافدة من شمال المتوسط . وفي ضوء هذا هل يمكن الجزم أن المدرسة الحديثة هي امتداد وتطور للمدرسة اليسوعية ؟
البوادر الأولى للمدرسة العتيقة .
نالت قضايا التربية والتعليم اهتمام المفكرين المسلمين الأوائل الذين تشبتو على الرغم من اختلاف اتجاهاتهم ومواقفهم بسبب ارتباطها بقناعاتهم بالعقيدة الإسلامية كدعامة أساسية لتنشئة الطفل تنشئة إسلامية
لقد اعتنى النبي والصحابة بتعليم المسلمين مبادئ دينهم منذ الصغر ، وكان الآباء يتكلفون مباشرة أو عن طريق معلمين خصوصيين بتلقين أطفالهم القرآن مما يعني أن الكتاب لم يظهر إلا في فترة متأخرة نسبيا وهي أواخر القرن الأول وبداية الثاني الهجري .
وقد كان الكتاب في البداية ملتصقا بالمساجد على الرغم ما كان يبديه الفقهاء من تحفظ على ذلك وعلى رأسهم الإمام مالك لكون الأطفال لا يتحفظون من النجاسة . ومهما يكن من أمر فإن الكتاتيب القرآنية انتشرت بسرعة كبيرة . وأصبح حفظة القرآن يعملون بها وبالتالي بدأت تظهر الاختلافات زمانا ومكانا بين أشكال هذه المؤسسات والمواد المقرر تدريسها فيها .
ويكفي أن نستنتج من ذلك من عنوان الفصل الذي أورده ابن خلدون في مقدمته ” تعليم الولدان واختلاف الأمصار في طرقه “فأما أهل المغرب فمذهبهم في الولدان الإقتصار على تعليم القرآن فقط وأخذهم أثناء المدارسة بالرسم ومسائله واختلاف حملة القرآن فيه لايخلطون ذلك بسواه في شيءمن مجالس تعليمهم لا من حديث ولا من فقه ولا من شعر ولا من كلام العرب إلى أن يحذق فيه أو ينقطع دونه فيكون انقطاعه في الغالب انقطاعا عن العلم بالجملة وهذا مذهب أهل الأمصار بالمغرب ومن تبعهم من قرى البربرمن أمم المغرب في ولدانهم إلى أن يجاوزوحد البلوغ إلى الشبيبة ، وكذا في الكبير إذا رجع مدارسة القرآن وحفظه من سواهم1 “
لكنها مع ذلك استمرت رافدا أساسيا لتزويد حلقات المساجد والمدارس بنسبة مهمة من المتعلمين .
الكتاب القرآني في المغرب
1 ابن خلدون مقدمة ابن خلدون دار القلم بيروت ص 538
لقد اختلفت التسميات التي كانت تطلق على هذه المؤسسة فهناك من سماها بالمكتب وعلى الرغم من كون هذه التسمية أقرب إلى تعليم الكتابة والقراءة فقد تطلق على أماكن تعليم القرآن أو علوم أخرى غيره ، كما سمي بعد بالكتاب والتعليم يوافق التعليم الأولي بشكل عام .
يطلق جل الفقهاءلإثبات شرعية تعلم القرآن من الحديث النبوي الذي يحث على تعلم القرآن ” خياركم من تعلم القرآن وعلمه ” . وفي نفس الاتجاه هناك من يربط وجوب تعليم القرآن ووجوب أداء الصلاة انطلاقا من سن السا بعة ويؤكدون على هذه السن ، لأنه يرى أن ممارسة التعليم قبل هذه المرحلة تؤدي إلى نتائج سلبية .
أولها فإذا كان الصبي في ذلك السن فهو غير محتاج إلى من يأتي به إلى المكتب . وآخرها ” فليحذر المعلم أن يقرئ هؤلاء إذ لا فائدة في إقرائهم ، إلا وجود التعب غالبا ، وتلويث موضع القرآن . والمقصود بهذه الإجبارية هم الذكور أساسا دون الإناث اللاتي يقتصر في تعليمهن على ما يصلين به دون غيره من المعارف الأخرى . والبعض أن تعليمهن يجب أن يكون بالسماع ما دامت المرأة قادرة على الحفظ ، أما إذا لم تتمكن من ذلك ، سيما والنساء أكثر نسيانا حتى قيل أنك لا تكاد تجد امرأة تبدأ حديثها وتكمله فلا بأس بالاستعانة بالكتابة ما دام ستساعد على تحقيق الهدف ،فإذاكان هناك تحفظ من تعليمهن الكتابة فيرجع ذلك إلى التخوف من استعمالاتها في أشياء لا أخلاقية .
ومع هذا فقد شاع تمكنهن منها حتى كن يقمن باستنساخ الكتب في عصر من العصور القديمة وكان تعليم الانات يتم في عزلة عن الذكور وأحسن النظر التفريق بين الذكور والإناث وأكره خلطهم لأنه فساد .فالكتاب هو الوجهة الأولى للأطفال لحفظ سور القرآن وتعليم بعض مبادئ الدين الأولى وبعض الآداب العامة التي يحتاجها الأفراد في حياتهم اليومية كآداب التحية وقيم الطاعة والاحترام .لكن إذا كان الذكور هم وحدهم الذين يمكنهم متابعة تعليمهم داخل الكتاتيب بحيث يستثنى الإنات من ذلك ، فليس كل الأبناء الذكور داخل الأسرة يحضون بفرصة التعلم ، قد يتمكنون جميعا منذ سن الحضانة من الاحتكاك بالكتاتيب ،لكن ما أن يصبحوا قادرين على أداء الأنشطة الفلاحية ، أي منذ سن السابعة من العمر تقريبا ، حتى يتم إبعادهم عن الكتاب وإسناد إحدى الأنشطة الفلاحية إليهم خاصة رعي المواشي . وفي الغالب الأعم ، لا يتم الاحتفاظ داخل الكتاب إلا بأولئك الذين أظهروا النبوغ والقدرة على حفظ السور القرآنية . إلآ أن بعض الزوايا كان التعليم بها مختلطا كما هو الحال في زاوية أبي عبد الله الهبطي . والتفرقة بين الإناث والذكور هو القاعدة .وقد عرف منذ بداية القرن العشرين في بعض الحواضر التاريخية تعليما للقرآن خاصا بالبنات في دور الفقيرات أو الفقيهات تحكي فاطمة المرنيسي أستاذة علم الاجتماع رحمة الله عليها أنها قضت فترة من طفولتها تتعلم القرآن في دار الفقيهة بفاس في الأربعينيات من القرن العشرين . وفي هذه الدور يتعلمن أيضا بعض الشعائر الاسلامية . إذا كان الكتاب القرآني يحتل مكانة كبرى في نفوس المغاربة فإنه يصعب القول بأن كل من مر منه كان
يقصد بقية مؤسسة التعليم الأخرى . وبعبارة أخرى فهو أبعد من أن يكون مرحلة تأهيلية بقدر ما كان الغرض منه تكوين فرد دي سحنة دينية إسلامية مضمونها المعرفي يدور أساسا حول القرآن والفرائض وأهداف أخلاقية مؤداها تنشئة اجتماعية أي تهيء اندماجه الأسروي والاجتماعي . من هنا يبدوا أن الكتاب مؤسسة صغيرة تتم بمبادرة جماعة حريصين على أن يتلقى أبناؤهمعلم فيها المعارف الأولية الضرورية واعتماد المعلم فيها على آباء الطلاب حدد مكانته الاجتماعية
أما الجامع فإنه مؤسسة كبرى تتم بمبادرة شيخ أو شيوخ من المتبحرين في العلم .وقد تكون مجانية لدى الجانبين الشيوخ والطلبة وقد تدفع للشيوخ أجرة .أما الطلبة فلا جراية لهم ولا سكن إلا حين أصبح التدريس في الجوامع حكاية لما صار عليه الحال في المدارس .
نشوء المدارس العتيقة بالمغرب .
وأول سلطان مريني تحدثنا المصادر عن اهتمامه بإنشاء المدارس هو يعقوب بن عبد الحق الملقب بالمؤيدوالقاسم والمنصور قال الناصري ” وبنا المدارس لطلبة العلم ، وأوقف عليها الأوقاف . وأجرى عليهم بالمرتبات2 . غيرأن هذه المصادر لا تحدثنا سوى عن مدرسة واحدة أنشأها هذا الخليفة ، هي مدرسته بفاس ، فكأن أهمية الرجل ترجع إلى أنه سن سنة بناء المدارس لبنيه من بعده ، فاستكثزوا من بناء المدارس العلمية والزوايا والربط ووقفوا عليها الأوقاف الغلة وأجروا على الطلبة الجرايات الكافية .
إن اهتمام سلا طين المغرب بالمدارس نابع من تشبعهم بالدين وقناعتهم بالصدقة الجارية التي ينص عليها الحديث ” إذامات بن آدمانقطع عنه عمله إلا من ثلاتة . صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعوله.ومن مجالات الصدقة الجارية . توزيع;
2 الناصري : الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى. الدولة المرينية، القسم التاني. الجزء الرابع. دار الكتاب 1955 ص 460
المصاحف والانفاق على طلبة العلم ونشر العلم ويقصد بالعلم هنا العلم الشرعي .حفظ القرآن وكتابته وعلومه كعلم التفسير وعلوم الحديث والفقه .وكانت هذه العلوم تعطى للطلبة مختصرة في متون كمختصر عبد الواحد بن عاشر . المرشد المعين على الضروري من علوم الدين وشرح ميارة والأربعون النووية للامام النووي وهو متن لحفظ الأحاديث النبوية وألفية بن مالك والأجرومية في علم اللغة أما العلوم العقلية كالفلسفة والمنطق فكانت مبعدة ومحرم تدريسها والاشتغال بها ” وأين لهم أن يشتغلوا وكتب الغزالي بين أيديهم وداخل عقولهم وهي تقطر حقدا على الفلسفة والفلاسفة بل أن من يحاول أن يظهر بهذا المظهر وربما كان مآله الاعدام أو الحكم بتكفيره وإلحاده على الأقل ….”
أما المنطق فربما يرجع إبعاده وإهماله نهي ابن صلاح والنووي عن دراسته، وعلى أي حال فربما كان يعتقد العلماء أن الاشتغال بالفلسفة والمنطق سبب الانحلال والضلال والزيغ والزندقة .
بقي نظام المدارس العتيقة جامدا لأسباب مختلفة ، منها أن الدولة اختارت نظام المدرسة العصرية كنشر التعليم فانشغلت أجهزتها بتوسيع قاعدة هذا النظام ، وبتطوير مناهجه ووسائله انشغالا كليا ، ومنها أن القائمين على نظام المدارس العتيقة لم يكن مؤهلين لإخراجه من جموده ، لأنهم كانوا قد توارتوا مفهوما ضيقا للعلم ،لا يتطابق مع مفهوم العلم كما ورد في القرآن . كما انصب اهتمامهم على فقه العبادات ولم يطور فقه المعاملات .والطابع الغالب على هذا التعليم هو الاستظهار وقد تحدث بن خلدون في مقدمته بإسهاب عن سلبيات استظهار المختصرات والمتون مع ما تعتريها من صعوبات لغوية وأكد في نفس المقام على ما اختص به المغاربة من عناية بالحفظ دون غيره الشيء الذي ينعكس على نكوصهم ، فظلوا ملازمين للمجالس العلمية سنين متعددة دون طائل كما أن تلقين هذه المواد الدراسية كان يقتصر على ما يخدمه من تلك الماد التوجه الفكري السني المالكي السائد مما نجم عنه تهميش لكل المواد العلمية والفلسفية وأن الأهداف التعليمية اقتصرت على الاستقبال والقبول ،على الرغم من أن الاطار العام لهذا التعليم لم يكن مؤسسيا بالمعنى الحالي للكلمة وتحتل مادة الخط موقعا متميزا بين مجموع هذه المواد بسبب الاقبال الذي كانت تشهده حتى أن بعضهم كان يخص المتعلم بمن يلقنه إياها بقصد إمكانية الحصول على وظيفة الكتابة في أحد الدواوين على الرغم من أن بعض العلماء اتخذوا موقفا متحفظا من ذلك (ابن عرضون والمغراوي ). على اعتبار أن المبتغى من وراء ذلك دنيوي والمفروض أن التعليم كان يتم بصفة تدريجية إلى أن يتم الانتقال إلى تدريس اللغة بواسطة متون . وأما المتون التي كان يتعلمها الصبيان فتكتب أحيانا في مؤخرة اللوح وكانت المختصرات تشمل أساسا رسالة ابن أبي زيد القيرواني ومختصر أبي سعيد البراذعي .
وأهل الأندلس فمذهبهم تعليم القرآن والكتاب من حيث هو ، وهذا الذي يراعونه في التعليم ،إلا أنه لما كان القرآن أصل ذلك ومنبع الدين والعلوم ، جعلوه أصلا في التعليم ، فلا يفتصرون لذلك عليه فقط بل يخلطون في تعليمهم للولدان رواية الشعر في الغالب وأخذهم بقوانين العربية وحفظها وتجويد الخط والكتابة . ولئن سطر القابسي برنامجا مفصلا للتعليم الأولي بالكتاتيب فقد أعار أهمية أساسية لتدريس القرآن ورأى وجود ترجيح كفته على كفة مادة أخرى من ماد التعليم وفي إمكان الطفل في نظره أن يكتفي باستظهار القرآن من الذاكرة من غير أن يكون قادرا على قراءة نصه ويستفاد من بما قرر ابن خلدون أن تغليب الأهمية على تعليم القرآن أولا وبالذات بدون التفات إلى إعداد الصبيان لفهمه بتلقينهم القراءة والكتابة كان من تتيجته أن عاق أهل إفريقية والمغرب عموما من امتلاك ناصية اللغة العربية.فهاهو يقول صراحة فأما أهل إفريقية والمغرب فأفادهم الاقتصارعلى القرآن والقصور عن ملكة اللسان جملة ثم يعلل قصورهم بقوله “ذلك أن القرآن لا ينشأ في الغالب ملكة لما أن البشر مصروفون عن الإتيان بمثله ، فهم مصروفون بذلك عن الاستعمال عن أساليبه والاحتداء بها وليس لهم ملكة في غير أساليبه ، فلا يحصل لصاحبه ملكة في اللسان العربي وحظ ه الجمود في العبارات وقلة التصرف في الكلام .هناك مقاييس وجب توفرها في من يتم اختياره لمزاولة مهمة التعليم مقياس علمي وهو المعرفة بأحكام القرآن وإلآ فلن تكون حذقته جائزة بالاضافة إلى ذلك إتقان اللغة والتربية والفقه وأهم مقياس هو المقياس الاجتماعي مؤداه سمو الأخلاق والسمعة الحسنة مادام ذلك يشكل القدوة للمعلمين “ويمنع من التدريس من يتحدث عنه بسوء “ومن ضمانات ذلك أن يكون متزوجا .أما ما كان يعاب على المعلمين فهو قبولهم للرشاوى والأعطيات التي يقدمها للمعلمين قصد السماح لهم بالتغيب طويلاأو استحوادهم على الطعام الذي يحمله بعض المعلمين وعيبهم أيضا أنهم ينشغلون عن التعليم بكتابة الحروز أوالخياطة أوحضور الجنائز وعيادة المرضى . ويفهم من هذا أن مكانة المعلم الاجتماعية لم تكن على قدر كبير من الأهمية بالنظر إلى مداخيلهالمادية المحدودة مما كان يدفعه للتشبت بالمكافآت نقدا وعينا والتي تقدم لهم في المواسم والأعراس والأعياد الاسلامية بل حتى الغير الاسلامية . إن الوضع المادي المنحط للمعلم كان يحتم عليه التعاطي لأنشطة أخرى مكملة”. أما المستوى العلمي فقد كان يختلف بشكل كبير من معلم إلى آخر ، فمنهم من يكتب أو يتهجى ومنهم من كان يعرف مبادئ الشعر والنحو والحساب .”فواجب الأب يكون بتربيته للولد وكفالة تعليمه الدين ، ومازاد عن ذلك فهو منة من الوالد للولد وحيث أنه لابد عند القيام ببعض الواجبات الدينية من قراءة القرآن ، فقد درج المسلمون على تعلم ذلك وتعليمه لأبنائهم ..إذن إن تعليم القرآن وتعلمه سنة درج عليها المؤمنون كما يقول ذلك الرأي الفقهي في التربية الاسلامية حتى أصبحت واجبا . وإذا كان من واجب الوالد تعليم ابنه الصلاة ، وتعليم الصلاة يلزمه تعلم قراءة القرآن من أجل تأكيد الدين ، فمن باب أولى بالوالد تعليم ابنه القرآن إلى جانب الصلاة . وإذا لم يتكفل الوالد بهذا ،
3 ابو زيد القيرواني: رسالة أبي زيد القيرواني مالك الصغير دار ابن حزم ص: 220
فإن أي إنسان آخر يتولاه سيحظى بالأجر عند الله . إن المسلمين لم يدرجوا آنداك أي في العهود الأولى على إقامة الكتاتيب لتعليم أولادهم على نفقة بيت المال ورأوا في هذا العمل واجبا على كل والد نحو ولده فتأخر تأسيس الكتاتيب يعلم فيها القرآن ومختصرات من علومه .أما الخصال التي ينبغي أن يتحلى بها المعلم أن يكون بالمتعلمين رحيما ورفيقا ،فهو على المعلم وهو البديل عن الأب أن يكون رحيما بالأولاد وأن يرشدهم في كل مافيه نفعهم وخيرهم وأن يكون عادلا وينظر في صلاحهم وأدبهم وأن يكون له برنامج عمل من أجل تفقدهم في دراستهم قراءة وكتابة مثيرا فيهم الحماس والمناقشة محركا دوافعهم وهممهم.
وبناءا على ما سبق يمكن القول أن المدارس العتيقة كانت عبارة عن جزر منعزلة عن ما يجري في المجتمع المغربي من تحول وبقيت منغلقة على نفسها في منأى عن التفكير في إعادة النظر في طريقة تدريسها ولم تكلف نفسها بالانفتاح على النظريات التربوية التي عرفها الغرب الأوروبي .
إذا كان الغرب المسيحي قد عرف هزات وثورات على الصعيد السياسي والاقتصادي والتربوي منذ بداية عصر النهضة تجلى في إقدام اليسوعيين على الاهتمام بالتربية والتعليم وجعله ورشا مفتوحا بما له من أثر على العقيدة المسيحية التي بدأت تضعف فبالتربية والتعليم ستدب الحياة في العقيدة المسيحية .فالتعليم عندهم يدعم خلق مجتمع يهتم بالتكوين والنمو . والتعليم عند اليسوعيين لا يقتصر على مجرد تعلم محتوى الكتاب بل يتجاوز ذلك ليشمل تكوين الشخص بكافة جوانبه . العقل ، القلب ،الجسم ، الروح ، وهكذا ، ينمو الطلاب ويصبحون أفرادا ناضجين وقادرين على المساهمة بما لديهم من مواهب ومهارات لخير بلادهم وأخواتهم في الانسانية ، إذ يصبحون رجالا ونسا ءا من أجل الآخرين ولما كانت خبرة اليسوعيين المتميزة في التربية ترجع إلى مايزيد على خمسة قرون فإننانوردها هنا في خمس سمات .وضوح منهج اليسوعيين التربوي وصرامته .السعي إلى الجودة . تحرص المؤسسات اليسوعية على الجودة ، فتحقيق الامتياز من الأمور الأساسية ،ومن تم يوضع مقياس عالي المستوى لأداء كل من الطلاب والمدرسين مما يساعدهم أن يحرصوا أشد الحرص على الوصول إلى الامتيازفي الناحية الأكاديمية . دراسة العلوم الانسانية والعلوم الطبيعية . تولي المؤسسات اليسوعية اهتماما كبيرا لدراسة كل من العلوم الانسانية والطبيعية ويتم توجيه الطلاب فيصبحون قادرين على كل من التفكير والتعبير الشفوي والكتابي بحيث يعرفون شيئا من التاريخ والأدب والفن ومن ناحية يتمتعون بفهم عميق للرياضيات والعلوم من ناحية أخرى . ويهدف اليسوعيون بذلك إلى إعداد أفراد قادرين على العيش بل على الدخول في مجال العمل أيضا في المصانع وهذا ما تفتقر إليه المدارس العتيقة فالاعداد إلى الحياة العملية لا يدخل في برنامج هذه المدارس في حين أن الغاية القصوى هي تنشئة وإعداد ناشئة متشبعة بتعاليم الدين الاسلامي ومتفقهة في العلم الشرعي . فالمدرسة اليسوعية تتيح للطالب الفرصة أ، ينمو في كل من المعرفة والإيمان .واكتساب المعارف الدنيوية مع التقيد بتعاليم المسيح.يتأسس التعليم اليسوعي على الانضباط الصارم والمركزية الصارمة والطاعة المطلقة للناشئين في المناصب لكبار السن بل اعتماد تعليم علماني ما دامت غايته خدمة تعاليم المسيح ونصرته والتعليم العصري مدين لليسوعيين بنظام الداخليات الذي يأوي الطلاب للتفرغ للدرس والتحصيل كما أن التقويم المعمول به اليوم في الامتحانات الصفية الواجب أو الفروض بشتى أنواعها هي من إبداع اليسوعيين;
Emile Durkheim : L’évolution de la pédagogie en France PUF chapitre les juisites.
المصادر والمراجع
عبد الرحمان ابن خلدون المقدمة دار القلم بيروت
أبو زيد القيرواني رسالة أبي زيد القيرواني (مالك الصغير ) دار ابن حزم
أبو الحسن علي القابسي الرسالة المفصلة لأحوال المتعلمين واحكام المتعلمين والمعلمين
الناصري الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى الدولة المرينية القسم الثاني الجزء الرابع دار الكتاب 1955
محمد زنيبر الثقافة والمجتمع في تاريخ المغرب المحرر الثقافي 23 اكتوبر 1977
عبد الله الجراري من أعلام الفكر المعاصر الجزء الأول الطبعة الأولى غشت 1978مطبعة الأمنية الرباط
تامر البشير عبد الرحمان الطيبي محمد النجاتي جوانب من تاريخ التربية في المغرب ، التعليم في الكتاتيب القرآنية في القرن العاشر الهجري من خلال مخطوط المغراوي وابن عرضون ضمن مجلة تاريخ المغرب السنة الرابعة غشت1984العدد الرابع.
أحمد كوال
أستاذ باحث في علم الاجتماع.