أحمد الخمسي :أقول لولي العهد ابتسامتك الجميلة من حق بلسمها أن يشفي جروح أبناء وأمهات الريف
في قلب الاوضاع (40)
أحمد الخمسي
عندما، نبّه وزير خارجية المغرب، الوزيرة الفرنسية في الخارجية، إلى الإمساك بخيوط الترجمة، لم يكن ذلك، حدثا تفصيليا عاديا. بالمناسبة، في منتصف التسعينات، غيّرت الصين لغة الحديث مع الصحافة الدولية في الندوات الصحافية الدورية. وقدمت هذا الحدث بلباقة ماكرة: إذ، أعلن المسؤول الصيني المكلف بإدارة الحديث الصحافي، أن الصين فكّرت في تقديم خدمة جديدة للصحافيين من مختلف مناطق العالم (الغربي طبعا) وهي فرصة تعلم اللغة الصينية. وقالت إن تلك الندوة الصحافية ستكون الأخيرة التي تجري باللغة الانجليزية. لذلك، على المؤسسات الصحافية الاجنبية أن تُعدَّ مراسلين صحافيين يتقنون اللغة الصينية، للمشاركة في الندوات الصحافية المقبلة في الصين.
كان ذلك، إعلانا بموازاة التقدم الاقتصادي الصيني بتقدم ثقافي صيني آتٍ، وبالتالي لا احترام ولا اعتراف متبادل ولا ندّية دون تجسيد ذلك في التخاطب اللغوي.
نعم، ما زالت برامج التلفزة المغربية في ساعات دروة المشاهدة تجري باللغة الفرنسية، وهي عادة دأب عليها القطب العمومي، كونه مخصصا للطبقة المتوسطة. اعتقدت الطبقة المتوسطة عن حق أن مناصب الشغل لأبنائها لا يمكن أن تصبح مضمونة إذا لم يتقن الأبناء اللغة الفرنسية. فهي لغة الشركات والأبناك ومقاولات التصدير والاستيراد. لكن الانجليزية التي استغنت عنها الصين في المعاملات السيادية، منتصف التسعينات من القرن 20 في الندوات الصحافية، بدأ الرئيس الفرنسي ماكرون يستعملها مع الأمريكيين في لقاءاته الرسمية معهم.
عودة المغرب اليوم إلى معاملة الفرنسيين بالمثل في التواصل أمام الصحافة، هو مظهر بسيط من استعادة القيمة المغربية المعتبرة من طرف الأجانب منذ قرون خلت. بمعنى تحلّل المغرب الرسمي من تبعات عقد الحماية ثم توقيعه قبل قرن وإلغاؤه رسميا قبل ثلثي قرن. وكم درس سيستخلصه مغاربة العالم من سلوك الدولة في تلك الإشارة البسيطة من وزير الخارجية المغربي تجاه وزيرة الخارجية الفرنسية.
ستكتب السفارة الفرنسية تقريرا على غير العادة بصدد الخطاب التواصلي المغربي مع فرنسا الرسمية بمشاعر قلقة لأول مرة بعد 110 سنوات من التاريخ المشترك المغربي الفرنسي. ولن تمر تلك الاشارة مرّ الكرام داخل الاسر المغربية التي تتحدث فيما بينها داخل بيوتها بالفرنسية. بل ستكون اللحظة السيادية الجديدة ضمن الأوراش الكبرى الحقيقية التي لا يتحدث الإعلام العمومي عن آثارها.
لن يستوعب المغاربة بكل فئاتهم هذا الحدث سوى بتنفس الصعداء. وسيلاحظون أن الدولة المغربية لأول مرة ستكون فهمت صراعهم مع الفرنسة التي كادت تطرد العربية من مؤسسات المغاربة بانتهازية فرص الشغل وبالتعالي المصطنع، كما لو أن من انتصر منذ استقلال المغرب هم عملاء السلطة الاستعمارية. من الآن فصاعدا سيشعر المغاربة بالارتياح المعنوي وسيسترجعون العلاقة الصحيحة مع اللغات الاجنبية. وسوف يقبلون أكثر وأكثر على تعليم بناتهم وأبنائهم الفرنسية والانجليزية والاسبانية والصينية بلا عقدة الدونية الاستعمارية ودون خوف من فقدان الهوية. وسينتبهون أكثر الى ضرورة توطين التعليم بلغتهم الوطنية الأمازيغية. وسيصبح التعدد اللغوي ميزة وفرصة وحظوة دون التفريط في معالم السيادة. شريان اللسان الذي كان من ميزات العلاقة بين الدولة والشعب طيلة التاريخ المغربي كله، عاد جريانه التواصلي النفسي والمعنوي بين الدولة والشعب. قد يطلب المغاربة يوما من مسؤولي دولتهم التحدث أمام الأجانب باللغتين الوطنيتين الأمازيغية والعربية، بدل التزلف للأجانب والرضوخ للتحدث باللغة الاستعمارية. ولن يلغي هذا الشعور السيادي الصرف متعة المغاربة وهم يتقنون اللغات الأجنبية أيضا.
فقد كان شرلمان أميا لا يتقن سوى إحدى الدارجات الفرنسية المتعددة، بينما كان أمير الأندلس يتقن خمس لغات. وعندما ناضل الفرنسيون من أجل توحيد فرنسا وخلق “الدولة-الأمة” مجّدوا دور شارلمان في التاريخ الفرنسي وصار العالم كله يعتقد ذلك، لأن العالم عبر مناطقه صار يعقد الصفقات والاتفاقات باللغة الفرنسية. وكأنه لم يكن جاهلا بلغات بلده المحلية حتى.
وها نحن اليوم نجد أحد الكتّاب الغربيين يسجل: بدلا من أن يتخلى العرب عن لغتهم كما فعل معظم الغزاة الجرمان، ويكتسبوا لغة الشعوب المحتلة، عمدوا الى تعليم هذه الشعوب لغتهم هم، وجعلوا منها لغة ذات قيمة كونية….وما كان ممكنا لها، أن تنجز تلك المأثرة الرائعة لولا أنها لم تقدم مزايا متميزة ومخصوصة بها، مقارنة بلغات الشرق الأوسط.(Claude Cahen : L’Islam…1995,الطبعة العربية، 2010، ص 180).
من اطلع على كتاب دوكاستري، حول رسالة السلطان العلوي اسماعيل الى الملك الانجليزي المنفي في بارس، نهاية القرن 17، عند لويس الرابع عشر؟ ماذا قال مولاي اسماعيل لجاك الثاني؟ ملخص رسالة سلطان المغرب الى الملك البريطاني المخلوع نقطتان: الأولى أنه يلومه على التنكر للمذهب الذي يتبعه شعبه الانجليزي، والنقطة الثانية هي نصحه الخروج من فرنسا، والإتيان إلى البرتغال ليتمكن المغرب من التنسيق معه ومساعدته لاسترجاع العرش.
وللعودة الى تاريخ المغرب، ما كان لمحمد بن يوسف أن يستعيد العرش صيف 1955، لولا تضحية علال بن عبد الله بحياته، شهر فقط بعد النفي. ولولا انتفاضة المغاربة والجزائريين في غشت 1955، في وادي زم وقسنطينة. وما كان المغاربة يضحون بأرواحهم من أجل عودة “ابن يوسف إلى عرشه” (شعار المغاربة في المظاهرات). وما كان لعبد الرحيم بوعبيد أن يستطيع الاعتذار عن ترميم القصر الملكي وهو وزير الاقتصاد لولا أنه كان على موقف سديد من المسألة السيادية قبل تبوئه منصب السياسة الاقتصادية.
واليوم، الدمج بين الانتشار الاقتصادي في افريقيا واستعادة المسحة السيادية اللغوية تجاه البلد المستعمر سابقا، ليس سوى استعادة العناصر التاريخية للمغرب العظيم المستقل، والطريق الى ذلك، نزع شوكة الاستعمار التي زرعها الاستعمار بين مركز الدولة ومناطق المغرب العظيم التي ما ارتاحت يوما وجزء من المغرب مستعمرا. مثل مناطق الريف الأبي.
لقد أوقع الاستعمار بين السلطان يوسف وزعيم المقاومة ساعتها، باستغلال تدخل مشرقي في شؤون المغرب الداخلية، عندما أرسل “علماء” الدين في مصر والسعودية الى عبد الكريم الخطابي للحضور في مؤتمرين (1925 و1926) لم يلتئم جمعهما معا، بصدد الخلافة بعد سقوطها في تركيا. وأصابوا وحدة الكيان السياسي المغربي بالشقاق ومحاولة التفرقة. فأرسلوا دعوة الحضور لعبد الكريم بدل السلطان يوسف، ولكن عندما انتبه عبد الكريم الى سوءة الدعوة، لم يستجب. لم يترك الحزب الاستعماري الحدث يمر بسلام، ولم يفسر عدم استجابة عبد الكريم حفاظا على مركزية التمثيلية السيادية للسلطان، بل فسّره بخوف عبد الكريم.
إن سلوك الدولة اليوم بدأ يتحرر من التأليب الاستعماري ومن مخططاته التضليلية. لذلك، جاء وقت المصالحة الفعلية بين الدولة وبين المناطق المقاومة التي ساهمت في ضيق فترة الحماية بالمغرب وعودة الاستقلال والشرعية والاستمرارية. وبالتالي، ولأن عوامل الظرفية التي سادت سنة 2017، أغلبها لم يعد موجودا، فإطلاق سراح شباب الريف أصبح بمثابة البلسم الذي يعمم حصص السعادة بين كل المغاربة والتي ساهم المنتخب الوطني الشاب. كانت دردشة ولي العهد وابتساماته مع أبطال كرة القدم تلقائية مغربية لا تميز بين رموز الدولة وأبناء الشعب، لذلك حق أن يقتسمها الشعب كله بأمهاته وأبنائه جميعا دون تمييز.
إذا كان أبطال المغرب قد أدخلوا الفرحة على الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال، فلم يعد هناك أي مانع يحرم شباب الريف باقتسام الفرحة مع وطنهم وشعبهم وولي العهد في مملكتهم. إذا كان خطأهم الهجوم على إمام المسجد، فقد قال القضاء كلمته في حقهم، وإذا كانت الدولة أرحم بمواطنيها من حرفية الأحكام ولها قوة قانونية لتعميم الفرح، فلها واسع النظر، في ضوء مسحة السعادة التي دمجت الكيان المغربي عن بكرة أبيه، بفضل القرار السياسي الذي غيّر وجه المغرب من زاوية “الروح الرياضية”.
والملك يمسك بكل الأوراق: السيادية، والدستورية والإنسانية، لازدهار الروح الرياضية بين المغاربة، لتستمر روح المونديال على وجهها الحسن المشرق. ألم ينبه ابن عمه، باعتراف هذا الأخير لترك المحاكم وانتهاج روح المصالحة.