منذ البدء، أعترف أن البورتري لنبيلة منيب ها هنا، ذو بعد استراتيجي، يتوقف عند الأهم، ويترك التفاصيل.
سبق أن توصلت من جريدة مغربية بطلب كتابة بورتري لأستاذ جامعي، يساري الهوى، مغربي النزوع، فرنكوفوني التكوين العلمي، حظي من بعد بكرسي تدريس الملك محمد السادس عندما كان وليّا للعهد. كان المسؤول الإعلامي، الذي اقترح عليّ وصف الأستاذ المعني، يعلم القرابة الإيديولوجية بل التنظيمية بين الأستاذ وبيني، لكنه كان قد جرّب عبر كتاباتي الفصل بين الذاتي والموضوعي. فالكتابة الإعلامية التي تسعى إلى انتزاع احترام الرأي العام، تحترس دائما من خطاب الداعية الايديولوجي، لتتموقع على نفس المسافة من كل الفاعلين. كان بلال الحسن، مدير أسبوعية فلسطينية كانت تصدر بباريس، عبر افتتاحياته، يقود القارئ، الى صوابية المواقف الداعمة لحقوق الشعب الفلسطيني دونما شوفينية لا قومية ولا وطنية فلسطينية. تلك شيمة من شيم أهل الشام، المطعمين بالتلاقح البيزنطي الأوربي، مع جذور عربية وتنوع ديني منذ أقدم العصور، وذاك موقف جزء من صحابة النبي، الذين كانوا ميلون للروم بدل الفرس، في أحلك ظروف البعثة الإسلامية في مكة، لاستمالة “برجوازية” قريش الأمويين، ومعهم أهل الكتاب، من المسيحيين واليهود في يثرب من بعد، على عكس أهل العراق، الميالين للفرس، ومعهم من بعد شيعة الكوفة، أنصار علي، والمنقلبين على الحسين، من بعد. لذلك، قال فيهم الحجّاج فيما بعد، “أهل العراق، أهل الشقاق والنفاق”.
كي يمر السرد بسلام دون سوء فهم، بصدد أستاذ أكاديمي، مثل نبيلة منيب، فرنسي التكوين العلمي، كان على البورتري أن يتم باللغة الفرنسية. فالثقافة الفرنسية، بل اللغة الفرنسية، كما قال عنها ألبريطو إيكو، أجمل لغة بين اللغات الأوربية، لها تركيب في التعبير، توسط اللغات اللاتينية بوضوح النحو والصرف، واللغات الساكسونية بموسيقية الصوت. لكنني وكما قلت يوما للأستاذ السدجاري بالحسيمة ذات يوم، أرثي عجزي عن التحدث باللغة المغربية الأمازيغية، على أن أتحدث أمام المغاربة، في الريف الأبي، بلغة المستعمر. لذلك، ليس لي حيلة سوى التوصيف باللغة العربية.
لقد نالت نبيلة منيب ظلمَ ذوي القربى، وهو أشدُّ مضاضة من السيف المهند (الحديد الزهر كما يقال في العربية الفصحى القديمة). هل هذه خلاصة متسرعة أبثها بسبب “عصبية” تنظيمية قديمة؟ هل يتجه هذا البورتري لتوظيف هذا الشكل الصحافي لتمرير تلك “العصبية” القديمة؟ “عصبية” مَنْ؟ ضِدَّ مَنْ؟
عندي مرجعية، قد أكون مخطئا في تركيب مكوناتها: مرجعية محمد بن سعيد آيت يدر. الذي أعتبره استقلالية “المولد”، اتحاديّ النشأة، يساري المصير. أما عموم الناس الذين اشتغلوا بالسياسة في المغرب، واستمروا وما بدّلوا تبديلا، فقد ساروا عموما، وفق هذا الطريق الثلاثي. سواء بالذات خلال جيل بنسعيد، أو بوراثة المواصفات خلال الأجيال الموالية. تلك تربة المغرب في ما يسمى ب”التاريخ الراهن”. مغرب مقاومة الاستعمار إلى مغرب العولمة سنة 2023.
في “الجذور الاجتماعية والثقافية للوطنية المغربية”، اعتبر عبد الله العروي، لا طريق سالكا لفهم القادة السياسيين سوى علم الاجتماع وعلم النفس الاجتماعي. فالحوار المباشر لا يفيد وكذا الاستمارة. ربما، الاعتداد بالنفس لدى القادة وكذا نوع من بقايا فكرة الرعاع، مع ثقل الثقافة الشرقية، ممزوجا بوهم التفوق الموروث عن الفرنسيين، هو ما يجعل، من يصبحون في موقع القادة، يمنعهم من صرف “وقت ضائع” خارج ما يسطرونه أولويات في برنامج عملهم القيادي. حرص القادة على اقتصاد الوقت في محل ما وتبذيرهم للوقت فيما يعتبرونه مفيدا للمعانهم وظهورهم على “شاشة” الفضاء العام، هو ما يبدّدُ رأسمالهم القيادي. الخلط في صرف ثروة الزمن ينتج أشكالا من سوء الفهم فيما القادة المتنافسين على مواقف ومهام وقضايا يعتبرونها عادلة ولكنها محل اختلاف فيما بينهم. لذلك، يصدّق الناس “حقيقة” الانقسامية التي تبقى ملازمة لمن يختلفون فيما بينهم في الممارسة رغم اقتسام القضايا العادلة المشتركة.
الخلاصة من هذا الخلط في صرف الوقت هو ما يؤدي إلى التنافر وخلط الأوراق في التقدير المتبادل بين القادة في نفس الصف السياسي. تلك “قدرية” عانى منها اليسار باستمرار. فخسر اليساريون بعضهم بعضا. فشل فيدرالية اليسار الديمقراطي بعد عشرين سنة من الجهد جاء نتيجة لهذه السيرورة بمنظار علم النفس الاجتماعي، على حد اعتبار العروي كما سبق ذكره.
هذه الانقسامية المكرّسة، تفرز إلقاء المسؤوليات على الآخرين من كل طرف.
هنا تأتي الضرورة للتوقف عند بورتري نبيلة منيب. وهنا يأتي تفسير القول السابق كونها عانت من ظلم ذوي القربى. في سنة 2011، كانت سنة الربيع العربي، وكانت سنة سوف يليها صعود نبيلة منيب إلى الأمانة العامة للحزب الاشتراكي الموحد.
نهاية سنة الربيع العربي، أصدرت أوساط أمريكية تقريرا/تقديرا سياسيا حول حركة 20 فبراير في المغرب، اعتبر التقرير/التقدير الأمريكي (بقلم مارينا أوطاوي)، أن السند السياسي للحركة تلخص في الحزب الاشتراكي الموحد وجماعة العدل والإحسان والجمعية المغربية لحقوق الإنسان. وعند مطلع سنة 2012، صعد المحافظون الإسلاميون لتقلّد رئاسة الحكومة في المغرب، ضمن التوجه الأمريكي للركوب على الربيع العربي. وكان صعود نبيلة منيب ردّاً مفيدا للتوازن في الحياة السياسية المغربية وترسيخا لدور اليسار فيها. كانت فرصة بروز نبيلة منيب في التلفزيون المغربي سنة 2015 بمثابة الترسيخ المؤسساتي لتعطش المغاربة الحداثيين لتخفيف وطأة المحافظة على حياتهم باسم “الهوية”. بل وكان المغرب، من موقع الشعب والدولة العميقة يردُّ على صعود نجم الشيطان الداعشي بعد احتلال الموصل في العراق وانتشار الظلام كمخلص وهمي. أتت انتخابات 2015 المحلية و2016 التشريعية، وكانت نبيلة قد جذبت الأضواء من خلال التلفزيون، فأصبحت فيدرالية اليسار كما صرح بذلك إعلاميون لهم الحظوة لدى الدولة، القوة السياسية الثالثة التي سيكون لها شأن.
بمواصفة المرأة السياسية الأولى ذات الكاريزما والطاقة التواصلية الضاربة صعدت نبيلة منيب بما لا يقاس مقارنة مع صنوها من القادة الرجال من قبل، واقتعدت – بسرعة- موقع الصيت الذي اكتسبه بنسعيد من قبل بعد صبر وجهد طويل.
الخلاصة الأولى: برز اسم الفيدرالية مواكبا لاسم نبيلة منيب بالتطابق. بدء المناوشات ضد نبيلة وشطب هذا الدور الذي لعبته الذي لعبته في قفز الفيدرالية نحو الواجهة، هو الشكل الأول من ظلم من ذوي القربى.
***
هل تقدّم قادة الفيدرالية ببرنامج بديل للأصوليين الجاثمين على معنويات المغاربة والمتسللين إلى مختلف المؤسسات بميكيافيلية، كي تمثل الفيدرالية نموذج الحزب الحداثي اليساري الذي يرسخ المكتسبات لفائدة نساء المغرب؟ فتكون نبيلة المؤشر الأول على دمقرطة الحياة الحزبية من زاوية التأنيث؟ ترشيحات الفيدرالية للنساء في الانتخابات المحلية والتشريعية تدل على ذكورية الحزبين الآخرَين في الفيدرالية. فمن بين 91 انتخابية تشريعية، في الدوائر المحلية لم ترشح الفيدرالية سوى امرأتين سنة 2016، كلتاهما من الحزب الاشتراكي الموحد. بينما كانت ترشيحات حزب المؤتمر الوطني الاتحادي وحزب الطليعة كلها (50 ترشيحا) ذكورية. في الوقت الذي تقدمت الدولة في قانون الاقتراع بشروط أفضل لفائدة النساء. لقد كرست الفيدرالية بالقول شعار دمقرطة المجتمع، ولكن بالفعل كانت نساء حزب العدالة والتنمية أكثر عددا. ولم تتوفر الفيدرالية على برنامج للتأنيث العضوي البنيوي في أحزابها. وولم يبرز اسم نسائي واحد لا في حزب المؤتمر الاتحادي ولا في حزب الطليعة. مما انعكس على تمكين نساء الحزب الاشتراكي الموحد نفسه. إذ عانى القطاع النسائي نفسه من هذا التحجيم الفعلي ولو لم يكن التحجيم مبرمجا.
مما عنى أن وضع نبيلة منيب على رأس الأمانة العامة بداية سنة 2012، كان الهدف منها مجرد وضع “دمية” على الواجهة. ومما زاد توتر التوجه الذكوري ضد نبيلة تألقها في التلفزة سنة 2015، ولأنها لم تكن يوما “دمية” في وسع أحد تحريكها كما يريد لها، لم تخضع لابتزازات جرت في المؤتمر الرابع بداية سنة 2018.
الخلاصة الثانية: عندما تمّ تأنيث الأمانة العامة للحزب الاشتراكي الموحد، تمّ ذلك ضمن السياسوية الظرفية، لمواجهة الخصوم الأصوليين، ولم يهتم القادة الفيدراليون بالتأنيث أصالة عن أنفسهم، كون اليسار من أنصار المساواة بين الجنسين، بدليل مكتسبات نساء العالم في مختلف البلدان وبدليل قوانين الحكومات اليسارية في سكاندينافيا وروسيا السوفياتية منذ سنة 1918. لم ينسَ قادة فيدرالية فقط مبدأ دمقرطة المجتمع وتمكين نساء اليسار بل اتخذوا من التضييق على الأمينة العامة للحزب الاشتراكي الموحد ديدن عملهم. ونسوا أن الدولة نفسها حللت وركبت خلاصاتها حولها وطلبت منها ترؤس وفد يساري إلى السويد للترافع حول قضية الوحدة الترابية ونجحت في المهمة بامتياز.
***
في مؤتمره الرابع (بداية 2018)،رفع الحزب الاشتراكي الموحد شعار دعم الاحتجاجات الشعبية ضد الأوضاع الاجتماعية المتردية. كانت سنة 2017، سنة حراك الريف وسنة البلوكاج الحكومي. وكان الشعار المخرج الثالث للمأزق الذي عرفته السياسة العامة للبلاد. وبدل البحث عن أشكال الدعم بالاعتراض والاقتراح، وعلى عكس الشعار، تحدثت أرضية “الأغلبية المفككة” ساعتها عن “عرض سياسي جديد” لا علاقة له بالوضع العام، بقدر ما هو تحايل على موقع اليسار بلغة السوق والوساطة بدل لغة القضية العادلة والترافع القانوني والمؤسساتي لإقناع مراكز الدولة بصوابية دعم الاحتجاجات لفتح أفق واسع للحياة السياسية بدل مأزق التشنج من داخل الطبقة السياسية (مع الأصوليين) ومن خارج الطبقة السياسية (مع المناطق المهمشة: الريف، زاكورة، الشرق)، بحلول تنموية مشرفة للسمعة السياسية المغربية على الصعيد الدولي.
وكان التفسير العملي “للعرض السياسي الجديد” هو الهروب أماما نحو الاندماج المتسرع بين مكونات الفيدرالية، بدل حملة هادئة على الصعيد الداخلي لتفعيل مكتسبات ما بعد حركة 20 فبراير لفائدة المغرب شعبا ودولة، قصد كسب المزيد لفائدة الصحراء والعدالة الاجتماعية والحريات.
ولأن الفيدرالية انتكست داخل “حروبها” الداخلية من أجل الاندماج الشكلي المتسرع، بدل الاهتمام بالقضايا الكبرى، خسر دعاة “الحزب الاشتراكي الكبير” هدفهم بل موقعهم داخل الحزب الاشتراكي الموحد، ولجوا، منشقين، طالبين اللجوء الانتخابي خلال سنة 2021، مما أفقد الجزء الفاعل بقوة حتى من أجل الاندماج موقعهم المستحق داخل حزب الفيدرالية الجديد في “عرضهم السياسي الجيد”. وبدأت الاستقالات بعد شهر من تأسيس الحزب، واستمرَّ الانشقاق البعدي (في الطليعة) بعد الانشقاق القبلي (في الحزب الاشتراكي الموحد).
الخلاصة الثالثة: في صيف 2021، وعلى بُعْدِ شهرين من الانتخابات، وعلى قدر السرعة للتبرؤ من برنامج دعم الاحتجاجات الشعبية قبيل الانتخابات، جاء القدر الوافر لكيل الشتائم لنبيلة منيب وتحميلها مسؤولية التفريط في الاندماج الشكلي المتسرع. النتيجة، كان تألق نبيلة منيب في الحملة الرسمية عليها من موقع البرلمان، تحت مسمى جائحة كوفيد ومقتضياتها، تدنت الحملة إلى المس بالحصانة البرلمانية، والانزلاق في مساطر سلطوية، اتسعت من قبل ومن بعد، بدل القراءة الايجابية لتحولات المغرب على الصعيد الاقتصادي خارجيا، كلاعب اقليمي منفلت من الوصاية الاستعمارية الفرنسية، وكانت الحملة على نبيلة الحدث السياسي بامتياز، بينما مر حدث “العرض السياسي الجديد” في تجاهل تام.
***
ليس من الممكن الحديث عن مواصفات نبيلة منيب في قيادة الحزب الاشتراكي الموحد، وفي خسران فيدرالية اليسار لدور نبيلة منيب دون اعتبار ظرفية الحرب في أوكرانيا.
لم ينتبه الحادقون في “عرضهم السياسي الجديد” لما يمكن للمغرب أن يصيبه من الحرج تحت سقف الحرب وأجوائها العاصفة من الإضرار بمصالحه ومن الصعوبة في التكيف مع جديد المواقف بالنظر الى الاصطفاف التقليدي للمغرب حيثما وجدت فرنسا نفسها.
حدثان لم يرق إليهما “العرض السياسي الجديد”، وحدها الدولة المغربية امتلكت مهارة الإفلات من الحرج التصويت بصدد إدانة روسيا في الأمم المتحدة. ووحده المكتب السياسي للاشتراكي الموحد بقيادة نبيلة منيب امتلك الجرأة بإصدار بيان بصدد تصرفات السفارة الاوكرانية بالدعوة لتجنيد المغاربة في الحرب، ضد الأعراف الدبلوماسية للسفارات. وقتها، صمت أصحاب “العرض السياسي الجديد”. وحتى على الصعيد الافريقي حيث يوجد المغرب بقوة، صرح الرئيس السينيغالي (وهو ساعتها رئيس الاتحاد الافريقي أيضا) بنفس الموقف ضد السفارة الاوكرانية في دكار.
واليوم وبعد موقف البرلمان الأوربي بصدد حقوق الإنسان في المغرب، كان البديل الواقعي البسيط الذي صرحت به نبيلة منيب كأحسن هو تفعيل العفو العام على شباب الريف وكل المعتقلين، فما قبل الحرب لم يعد قط هو ما بعد الحرب. خصوصا ونحن نرى التوأم المغربي السعودي يذهبان شرقا. أما فيما يتعلق بالتطبيع فقد عبر أبطال المغرب في المونديال، على الموقف الرسمي.
الخلاصة الرابعة: في العلاقات الخارجية، بقيت نبيلة منيب ماسكة بالشمعة المضيئة للموقف المطلوب. ما قبل السويد بصدد الصحراء المغربية وما بعد حرب أوكرانيا، بصدد النأي بالنفس بدل التموقف مع الغرب. وكانت في هذا الصدد، وريثة الدور المزدوج الأبعاد: مستقلة القرار، منسجمة التوجه العام مع المصالح العليا للبلاد.
***
عندما تصرفت رئاسة البرلمان بضيق الأفق وبحساب سياسوي للتضييق على نبيلة منيب بصدد إجراءات الجائحة، خلال خريف وشتاء الدورة التشريعية (2021-2022)، شكّل الحزب الاشتراكي الموحد، بقرار من المجلس الوطني، هيئة للاتصال بالمحيط الحزبي والمدني، نال من خلالها الدعم المعنوي والسياسي. انبثق من خلاله علاقات رفاقية مع حزب التقدم والاشتراكية وتفهم عميق من حزب الاستقلال بالرغم من وجوده في الحكومة.
وكان اللقاء بين الأمانتين العامتين في الحزبين الشقيقين. ومن خلال التحرك للأمينة العامة، بناء على توصيات المجلس الوطني، بقي الحزب الاشتراكي الموحد صاحب المبادرة وخلق الحدث السياسي.
الخلاصة الخامسة: اعتقد البعض المسالم المستهلك لما يجري في القطب اليساري، أن الانشقاق القبلي المستهدِف للحزب الاشتراكي الموحد، سيسير بالحياة السياسية دون حضور للاشتراكي الموحد. وأن الحياة السياسية في البلد ما كانت لتوفر للاشتراكي الموحد حيزا في الصورة العامة سوى بالقادة المنشقين. فظهر العكس تماما. ودفع الموقف الخاطئ لرئاسة البرلمان ببروز نبيلة منيب وحزب نبيلة منيب من داخل البرلمان.
***
خلاصة الخلاصات:
منطق “العرض السياسي”، محاولة للاصطفاف داخل استراتيجية الدولة العميقة التي حاولت دائما إعادة بناء الحقل السياسي من فوق. إحدى ندوات مؤسسة عبد الرحيم بوعبيد (الدفتر الأزرق رقم 13، 2007) وصفت من يساهمون في مسلسل فوقي ب”المقاولين” السياسيين.
المسلسل الذي بدأ مع “جمعية لكل الديمقراطيين”، عوض البرامج السياسية الممثلة للطبقات الاجتماعية المتضررة بالوظيفة الحزبية أسلوبا للاندماج في الطبقة السياسية بنسبة عالية من “التغذية الإرادوية” (dopage)، من فوق، فيما يشبه المنبت/المختبر لصناعة الأحزاب. هذه العملية كانت رعاية ضابطة لمولود أصولي (حزب التنمية والعدالة) بتوجيه أمريكي (من تركيا إلى المغرب)، لمواكبة “الحرب على الإرهاب” (افغانستان).
ولأن الاستراتيجيا نشأت فكرتها وبرمجتها في الغرب ضمن مضاعفة أجنة الثورة المحافظة المضادة (من أمريكا الى الشرق الاوسط)، فقد راقت كل سلالات المحافظة، حتى الليبراليين منها.
وسرعان ما انتقلت الوصفة الى صفوف اليسار غير المندمج، وظن بعض المهرة في المراوغة السياسية والتنظيمية، أن لهم المهارة الكافية لجر وسطهم الشعبي إلى “الاندماج” في العملية الكبرى، من خلال نواة “اندماج” صغير.
استعصت التيارات الصلبة عن هذا التطويع “التنظيمي” بقيادة نبيلة منيب. من مواصفات صلابة هذه التيارات العصية على التطويع “الاندماجي”، الوفاء لاستقلالية القرار التنظيمي والسياسي الموروثة عن الحركة الوطنية التي يصعب تصنيفها الوظيفي كونها معتدلة أو متطرفة. لكنها وفية للمغاربة المندمجين في البرنامج المثلث الراسخ: الاستقلالي/الاتحادي/اليساري.
لم يكن لهم مشكل مع النظام الملكي، فقط ظلوا مشتغلين على البند الديمقراطي من وثائق الحركة الوطنية الاستقلالية في استمرارية لا تنقطع وتكيف لم يتعب يوما مع مطالب الشعب.
اندماجهم الأصلي مع المغرب التاريخي، ونفورهم الدائم من السيناريوهات التي تكاملَ فيها التفكير الرأسمالي الغربي مع الخليجي لتفكيك العالم العربي وتعويضه بثنائية “الشرق الاوسط وشمال افريقيا” (MENA).
عندما أعلن الملك عن فشل النموذج التنموي، لو تم إطلاق نقاش وطني عميق ومتعدد المقاربات، لكان ، مناسبة لجرد حصيلة عشر سنوات في محاولة صناعة حياة سياسية من فوق (1907- 2017). ولكانت النتيجة التقدم خطوات نحو الأمام، لتثمين إيجابيات المرحلة واستكمال تعاقد سياسي متقدم على طريق مكتسبات 2011.
غياب النقاش الوطني العميق المذكور، ليست الدولة مسؤولة عن غيابه بالكامل، ولكنها مسؤولة عن عدم إطلاقه بمرجعية التقدم الجيلي الذي حدث منذ الربيع المغربي. فالربيع المغربي كان مزدوج الركائز: الحركة الشبابية وبرنامج 9 مارس 2011.
لكن الطبقة السياسية المنتهية الصلاحية هي التي بقيت عند ائتلاف G9، متهافتة، من حول حزب العدالة والتنمية الذي ركب الموجة الامريكية ساعتها. ولأن للدولة أعذارها، بحيث انشغلت بالقضية الترابية العصية، فقد ظلت الطبقة السياسية تتغذى من الرأسمال الذي توفره الدولة. خلال عشريتين، بعدما اشتغلت الدولة لسحب البساط من تحت أرجل الجزائر في 55 دولة، وضيقت الخناق عليها داخل افريقيا، فقد بقي لنبيلة منيب تجاوبها للامشروط مع الدولة في قضية الوحدة الترابية، واستثنائية برنامج حزبها السياسي الداعم للحراكات هو استكمال للوحدة الشعبية على أرضية ثلاثية: الكرامة (البرنامج الرباعي للتغطية الاجتماعية) والحرية (اطلاق سراح المعتقلين) والعدالة الاجتماعية (البرنامج الاصلي للاشتراكي الموحد، بأبعاده الاستراتيجية التي تستند الى دستور ديمقراطي.
يوم صرّح إطار اتحادي، يخاطب وزيرا ليبراليا أصبح منسيا اليوم: “نبيلة بزاف عليك”، عبّر عن كنه صلب، ضمن الموروث المتجلي اليوم من اليسار المغربي القح….
فنبيلة منيب نعم، تمثل الاستثناء وسط لخبطة اليوم. وقبل أن تأتي لقلب الأوضاع، فهي في قلب الأوضاع.