الدولة الاجتماعية على محك التيربوليبرالية وملحاحية المطلب الديمقراطي-الشعبي ذ.عبد الواحد حمزة

فضلا عن جدوى إثارة النقاش العمومي حول “الدولة الاجتماعية” [1]في خطاب وممارسة الدولة- المخزن بالمغرب، وإمكان الدفع بإحتمال تطبيق “دولة اجتماعية” تروم العدالة الاجتماعية، شرط إسنادها “بالدولة الديموقراطية”، بما هما يندرجان ضمن التفاضل التاريخي- السياسي بين نماذج الدولة الاجتماعية المعروفة لحد اليوم. إنه أمر يتطلب التروي والحسم الكافي بين ممارستين للفعل السياسي: ممارسة سياسية ملتبسة و”حافية” لـ”دولة-المخزن”، كدولة هجينة وتقليدانية ونيوكولونيالية، من جهة، وتصور مختلف ومعارض لهاته الممارسة، بما هو يروم -فعلا- إرساء شروط ومقومات ونظر اجتماعي- ديمقراطي. وهو الفعل الذي من الممكن أن يكون ليس فقط “لا-ليبراليا”، محضا، وإنما –أيضا- أن ينهج طريقا “لا- رأسماليا” صريحا، ديمقراطيا في أفق اشتراكي، من جهة أخرى. ولهذا سنحاول في هذا المقال الخوض في إشكالات فكرية عامة، يطرحها إمكان التأسيس لنظرية عامة للدولة الاجتماعية في إطار تيربوليبرالي، كالذي ينخرط فيه المغرب منذ الثمانينات.
- الإشكالات العامة لإمكان الدولة الاجتماعية في المغرب
إذا كان ظهور وتطور السوق، وكذا حرية المبادلات، من دواعي اعتماد الدولة الاجتماعية، فإن التحليل-النقدي لهاته الموضوعة يستوجب انتباه العلوم السياسية والاقتصادية، على وجه الخصوص. إن النقاش يتطلب في جميع حالات وأوجه وبرامج ذلك الخطاب/ الممارسة (الحماية الاجتماعية، التقاعد، التشغيل، الصحة، التعليم ….)، إستجلاء وتفكيك آليات السلطة والهيمنة والإخضاع والقهر لقوى العمل – على وجه الخصوص- ولـ”الإنسان-المواطن المغربي” –عموما- فضلا عن الاهتمام بتعقيدات السياسات الاجتماعية-على الوجه الأخص، ومدى إرتباطها الوثيق بمجالات سياسية عامة- خاصة، ذات صلة، وهو ما يتطلب إعتماد مقاربة شاملة ومتسقة لموضوع “الدولة الاجتماعية”، ولتأرجح “الإنسان المغربي” بين التطلع المشروع إلى الحرية والتحرير والعدالة، من جهة، والقهر الملازم له ولأوضاعه، في بلد يراوح مكان الإقلاع المزعوم، من جهة أخرى.
ولهذا فراهنية مطلب “الدولة الاجتماعية- الديموقراطية” ليس ولن يكون تطبيلا لشعار إيديولوجي- ديماغوجي، تتعبئ له النخب السائدة، وتدافع عنه، وتضَمَنَه سياسيا وثقافيا، إذ هو ليس شعارا فارغا، البتة، وإنما هو ممارسة سياسية تستدعي تكتيكا وإستراتيجية وتأملا وتفكيرا “وتنزيلا” خاصا من طرف قوى الصف الوطني- الديمقراطي –التقدمي المغربي.
ولهذا لا يمكن للقوى اليسارية الحية- بجميع تلاوينها – ببلادنا – أن تضعه جانبا، مطلقا، وأن تُخرجه –عنوة – من أجنداتها النضالية، أو أن تعتبره خارج السياق الراهن، ولا أن تتعامل معه بطريقة مبتذلة وشكلية ونفعية، لنفس “الغرض اليسراوي.
فالسياق العام والمفارق الذي نفكر فيه إشكالية “الدولة الاجتماعية”،- اليوم- هو سياق الرأسمالية العصرية، وسياق كل من يحلِّق في مدارها كالعيش على إيقاع تطورات عالمية/ عولمية هائلة وراهنة، فاللايقين والخصخصات والتغيرات التكنولوجية والمناخية، مما سرع توترات المجال الاقتصادي والاجتماعي والسياسي.
ذلك ما يسميه المناصرون –أكان في الاقتصاد أو السياسة- لهذا النزع بـ”السوق”. والحقيقة أن إسمه الواقعي هو “التيربولوليبرالية” أو “التيربورأسمالية”، وهي الدينامية التي إنطلقت من الولايات المتحدة في اتجاه المملكة المتحدة، فأوروبا وآسيا، ثم بالتدريج نحو فرنسا واليابان، الخ، فدول-بلدان الأطراف الرأسمالية – المتأخرة والتابعة، بما فيه بلادنا، اليوم.
لقد اتسع الشرخ الاجتماعي بين الفقراء والأغنياء، ولم يعد بمقدور الوازع الأخلاقي، ولا حتى القانون، بإمكانهما أن يردعا نزوع حكام البلدان المستوردة للنموذج التيربوليبرالي إلى اعتماد مزيد من الاختلالات والتشوهات الاقتصادية والاجتماعية. وعلى ما يبدو، فعدا الخطاب، فلا تتمتع الدولة- المخزن المغربية –اليوم- تصورا اجتماعيا شاملا ومتناغما لإستراتيجيتها الاجتماعية، ولا يمكن إعتماد “قولها الظاهر” في الموضوع، وإنما إخضاعه إلى محك فعلها ومارستها الواقعية، في ذلك.
وهو ما جعلنا نتساءل هل تتعاطى السياسات الاجتماعية الرسمية – بحق- وجد مع مجمل أوجه وتعبيرات تلك السياسات، أم أنها تنفذ استراتيجية تيربوليبرالية عامة وواضحة، لصالح الرأسمال الكبير، الوطني منه والدولي؟ الظاهر أنها تعالج ضائقة بضائقة، وتتعامل مع حالة بحالة، فيما يكتنف التناقض والغموض تلك السياسات الاجتماعية، واحدة واحدة، بالذات.
إذ كثيرا ما تخلق عنجهيتها ضررا كبيرا لدى أصحاب الدخول المحدودة، ومن لا دخل له من الساكنة المهمشة والفقيرة والهشة. هذه التناقضات العملية بين الخطاب وفعل الدولة- المخزن يجعلنا نرجّح أن الفهم والصراع الاجتماعي يحسم السياسة الاجتماعية، في الميادين، أكان في مجال السكن أو الصحة أو التعليم أو التشغيل وغيرهم، بطريقة عملية وبراغماتية.[2]
كل هذا أو ذاك يجعل من المدخل السياسي والدستوري مدخلا أساسا، ولا مناص منه، لكن لا يمكن أن ينزلق النقاش الفكري والسياسي من نقاش حول مفهوم ومسار ومقومات الدولة الاجتماعية في المغرب، إلى موضوع آخر، بالرغم من جديته وصوابه وملحاحيته، أي تهريب الحوار السياسي إلى تيمة “الدولة الديموقراطية”، لارتباط بعضهما البعض في الممارسة السياسية العينية لقوى اليسار التقدمي- الديمقراطي.
كما أنه لا يمكن إلا أن نتساءل عن ما إذا يعني الحديث عن “المقومات” للدولة الاجتماعية، من حيث هو حديث إبستمي عن “نظرية” في الدولة الاجتماعية، كنظرية قائمة الذات؟ أم أننا لا زلنا –ها هنا- أمام مقاربة لعناصر أساسية – بلا شك- لها، كأن نتحدث عن “الإصلاح الضريبي” أو “مشكلة التمويل والموارد” أو “دولة الحق والقانون”، الخ، لكنها غير كافية، للنظر الشامل والسديد في أمر وإشكال هذه الدولة. ولعل ما يزيد الأمر تمنعا هو تميز سياقها كدولة طرفية، “ما- بعد كولونيالية” !
وهو ما يعني صعوبة الفهم والتعامل مع خصوصية الموضوع وضرورة التجاوز النوعي للكليشيات. وهو ما يدعونا للتأكد من إعتبار البعض للدولة الاجتماعية في المغرب من باب الإيديولوجيا- الديماغوجيا المحضة. هناك تشكيك مستشري، أو إعتماد الخوض في الموضوع من باب ترف بلاد لا زالت تعاني من التأخر، أن لا يكون خطاب” الدولة الاجتماعية” سوى من باب “توصية أخرى” من توصيات مؤسسات مالية دولية غاشمة، زمان العصر النيوليبرالي المتوحش. وعليه فكل إفشاء مغرض لهذا الخطاب – يدعي البعض- ليس إلا وهما وسرابا ووبالا على البلاد، أكان بالنسبة للأجراء أو غيرهم.
ولهذا نتساءل صراحة: هل التيربوليبرالية، بما هي “نيوليبرالية متوحشة” -اليوم- تسمح بتوليد وتحقيق– على علاته- لأحد ركائز ومقومات الدولة الاجتماعية- في المغرب، أم أنها ستعمل على طحن كل ما هو اجتماعي، في طريقها الدؤوب والاستراتيجي، لتغليب مصلحة الرأسمال العولمي الكبير، على كل المصالح الشعبية والوطنية السيادية الأخرى؟
ثم أي توزيع للأدوار بين القطاع العام والقطاع الخاص “والاجتماعي” في سياسة الدولة؟ والحال أن لهذه الأبعاد الثلاثة حضور متفاوت ومختلف الأشكال والتشكيل من بلد لآخر، ومن حقبة تاريخية لأخرى، وحسب موازين القوى السياسية، ووفق النموذج المتبع للدولة الاجتماعية، ذاته، في جميع البلدان ومن “بلد نامي” لآخر؟
لا يمكن للدولة الاجتماعية أن تتجنب “حلزونية المسار”، واعتماد مقومات التأسيس الكبرى لها في بلاد الغرب ، نفسه- فضلا عن تعقد ذلك –أكثر فأكثر- في البلاد المسماة –قهرا – بـ”النامية”، لخضوعها – تباعا – لهدم بنياتها الأصلية، والتي قد تكون تضامنية، إثر السيطرة الطويلة عليها من طرف أنواع عديدة من الاستعمار المباشر والجديد والعولمة، وما لهذه القوى المهيمنة من تآزر وتحالف مع قوى التخلف والتبعية في بلاد المحيطات.
وقد نتساءل –للتو- في ما “المقومات” تلك، تسمح ببناء “نظرية في الدولة الاجتماعية- الطرفية”، أم لا؟ إذ لا نملك لحد الآن- نظرية- هكذا – في هذا الباب ، “شاملة مانعة”. والحال أن علوم الاجتماع والسياسة واقتصاد التنمية، مما يعني بالضرورة البلدان الطرفية- لم تبق على الزخم العملي الذي كانت عليه، في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، إبان صعود حركات التحرر الوطنية- المغرب- في العالم، ومحاولات تكريس إستقلالاتها السيادية الوطنية.
لكل هاته الحيثيات يلزم الجميع – محللين وممارسين للفكر والعلم والسياسة- الكثير من الحذر في تناول كذا موضوع، لأنه ليس بـ”ملف تقني” محض، كما يريد له التقنوقراط المخزني أن يكون، وإنما هو “إشكال شامل مانع”، يطرح طبيعة النظام الاقتصادي السياسي المسيطر، كما يعني مجمل الدورة الاقتصادية لبلادنا وللعالم، بما هي تراكم لرأسمال عولمي “دامج” أو مُستَخْرِج لطاقاته وقدراته الحية، وبما هو موضوع يجعل على عاتق قوى النضال والمقاومة واجب إيقاظ جذوة الأمل والتغيير إلى “ما هو أحسن”، وضعا ونظاما اجتماعيا وسياسيا.
2.الدولة الاجتماعية: في حدود الإمكان في المغرب
المحاولات التحريرية الأولى لبلدنا – أيام حكومة عبد الله إبراهيم – لتقعيد اقتصاد / سياسية اجتماعية مندمجة مستقلة (…). ولا يعني ذلك أن باب الاجتهاد النظري في هذا الموضوع بالذات، قد أغلق، بالرغم من مواربته الأكيدة – اليوم، حيث المشروع الاشتراكي بات يعرف انحساراً، وهو ما لا يعني انسدادا نهائيا له. وللإنصاف – فقط – فحتى المشروع الليبرالي يعرف انحسارا وأزمة بنيوية متجددة ، على الأقل منذ أزمة 2007-2008 العالمية، وصولا إلى الأزمة المالية الحالية لبنك سويسرا وبنك سيليكون فالي الأمريكي، إلخ .
ولهذا، قد يختلف اليسار في المضمون الذي قد يعطيه -هذا التيار أو ذلك- لـ”الاشتراكية”، لكن لا أظن أنه من المحتمل أن يختلف عن “مضمون الديمقراطية، بالرغم من التنكر الذي قد يصيبها، هنا وهناك، زمان التيربوليبرالية المتوحشة، ورديفتها الشعبوية” السياسية.
وسيظل المشروع الديمقراطي ذو أهمية وراهنية قصوى. ويمكن التأشير عليه – بسهولة- بالاحتكام إلى بداهة “صناديق الاقتراع”، حيث لكل فرد فرد صوت. ولو أن هناك من الأقوياء والمستبدين، من يريد إفساد العملية الانتخابية، بل ويفسدها في زواج صارخ بين السلطة والمال (…)، وحيث يستكثر على الضعفاء والفقراء والمهمشين وقوى اليسار التعبير الحر والشفاف، حسب نفس المعادلة البسيطة الممتنعة: “لكل فرد صوت” !
ولا تنطلي علينا أبدا لعبة “الديموقراطية التمثيلية”، حيث أقلية منظمة تحكم أغلبية غير منظمة، تماما، و تتفنن في حكمها لها، بقليل من العنف المباشر وبكثير من الحنكة، ما إستطاعت. ثم أن صوت الناخب لابد وأن يسنده مستوى معين من الوعي ومن التربية والتعليم ومستوى محدد من النمو الاقتصادي والاجتماعي (…).
كما أن “المدخل الأساس” لأي تحول اجتماعي لابد وأن يكون مدخلا سياسيا، وهكذا كان، وبامتياز، على طول التاريخ السياسي في العالم وفي المغرب، أيضا. ومن هنا وجب تجنب الاختزال والتبسيط في معالجة إشكال “الدولة الاجتماعية”، إذ الأمر يتطلب نقاشا / وتفاوضا – ديموقراطيا – مع كل الأطراف المعنية بالتغيير الاجتماعي – السياسي. فككل المواضيع المركبة، يتطلب الأمر الأخذ – بالضرورة- بمسار التاريخ الوطني لبلادنا، والأخذ بما يميز ثقافته التاريخية، فضلا عن التفاوض – في هكذا أمور – مع حكام القوى العظمى – إن نحن استطعنا ذلك .
ومعلوم أن العولمة طغت على الكوكب برمته، وأضعفت قوى تفاوض الأطراف الضعيفة والمهمشة في اتخاذ القرار العالمي والوطني. إن شأن “الدولة الاجتماعية” هو شأن “الديموقراطية ، بالذات. فحيثما ولَّيْتَ وجهك للتجارب العالمية – في مضمارها – ستجد البلدان متأثرة وبقوة بتاريخها المحلي / الوطني. وهو ما يضع اليوم كل من الديموقراطية وربيبتها “الدولة الاجتماعية” في مأزق. غير أن هذه الحقيقة المرة لا يمكنها أن تثني عزيمة الديمقراطيين – التقدميين في العالم، وفي المغرب، عن النضال من أجل التأسيس لتناوب ديموقراطي سليم على السلطة، لاقتسام الثروة بالعدل والحق والاستحقاق (…) .
ويبدو لنا من خلال رؤية استشرافية – أن “الدولة الاجتماعية” لم تستنفذ بعد كل مطلبيتها، بل ولها الكثير من الراهنية والملامح، وحتى بعض المقومات الفعلية، في بلادنا. وما يبرر وجودها ووضعها على رأس أجندة القوى السياسية التقدمية والديموقراطية، والدفع بها، لإحقاقها العملي -على مستوى الدولة العصرية. إنها تبدو كـ”العنقاء”، نهضت وتنهض وستنهض من حيث لا ينتظرها أحد، أيضا، لأمر بسيط- ممتنع، وهو أنها تجيب دوما على تطلعات الكثير من الناس – البسطاء، وقد تتطابق مع حسهم المشترك ومع عقلياتهم، إذ هي مطالب الحد الأدنى لـ”لكرامة الإنسان”، مطلع الألفية الثالثة.
وللتذكير، فإن “الدولة الاجتماعية” في أوربا- على الأقل – كان لها ولا يزال ما يبررها، ويشير إلى ذلك كل الحزم – مع الفارق الكبير- الذي انتفض به “مجتمع اليسار والمواطنة” في الغرب الرأسمالي المتطور (فرنسا، ألمانيا…) والصاعد (الشيلي، إسرائيل…)، وخروجه إلى الشارع – اليوم في حركات احتجاجية عارمة ومتواترة، أخذت العهد على نفسها أن لا ترجع إلى “الحياة العادية” إلا بإسقاط قانون للتقاعد، مثلا، وذلك لمدة أربعة شهور وأكثر في فرنسا، وكذا إضراب أطر الصحة (الأعوان والأطباء) في إنجلترا، إلخ، ضد “توحش النيوليبرالية”، وذلك لتحسين شروط العمل المأجور ، رفع مستوى تأطير المستشفيات، إلخ. وكان خروج “السترات الصفراء” في فرنسا، سابقا، تعبيرا على استفحال الأوضاع الاجتماعية من جهة، وإقدام قوي على المقاومة والنضال لتغييرها إلى أحسن، من جهة أخرى.
ولنا في تاريخ أوربا / الغرب، وحتى قبل ما يعرف بـ”الثلاثينية المجيدة”، ما يبرر التأسيس الصعب والمقبول لـ” الدولة الاجتماعية”. فمنذ نهاية القرن 19، أصبح التأسيس للمرفق العام، من باب “المعقول” – اجتماعيا وسياسيا. لقد رأت المجتمعات الغربية أنه من مسؤوليتها الاجتماعية الخاصة والعادية، أن لا يبقى (و لا أن تجعل من) ما يُعرف بـ”المصلحة العامة”، و”الدولة الاجتماعية” بالذات، ملعبا طبيعيا خالصاً لأصحاب المصالح الخاصة- الفردية.
وهو أمر ارتبط بمستوى الوعي الذي حصل عندها ولدى نخبتها، لكنه وعي حصل تحت ضغط أوضاع اجتماعية لم تعد تحتمل من طرف أغلبية “المواطنين”. كما أنها عرفت اعتبارا مستجدا مع آثار “العنف الاجتماعي” (بطالة، انحراف …) الذي لحق –تاريخيا- بالعمال وبالمجتمع، عموما ، أعقاب أزمة 1920-1930.
ويمكن اعتبار ما يميز – اليوم- التيربوليبرالية عن سابقتها – شكلا- الليبرالية، هو محاولة جر الجميع لإعتمادها وللتطبيع معها، بشكل مطلق، بالرغم من المفارقات الاجتماعية التي تنطوي عليها ، كأن يكون بالبلاد فقراء ومعدمين من جهة وأغنياء الفحش قلة، من جهة أخرى، واعتبار ذلك لهو أمر “طبيعي” و “عادي”، ولا يلزم أن يشكل حرجا لأحد (هكذا…)، ومن ثمة دعوة الدولة إلى رفع يدها عن كل تدخلية اجتماعية، ولإذكاء التنافسية القاتلة (أجور منخفضة قد لا تحترم الحد الأدنى، عدم احترام قانون الشغل، تمييع الحوار الاجتماعي ، الخ).
لهذا وذاك، ومن أجل تقعيد لـ”دولة اجتماعية” محتملة، بات من الضروري استنباط كل تلك المحطات المستنيرة، وبحث الشروط التي تخللت التاريخ لأوربا الغربية، من جهة، وكذا التقاط ودعم بعض “نقاط الضوء” تلك، في تاريخنا المحلي – الوطني، القُطري، من جهة أخرى. ومما لاشك فيه أن “الثورة النيوليبرالية بما هي “ثورة مضادة” أتت على أخضر “الثلاثينية المجيدة” في الغرب، وعلى اليابس فيها، وعلى بعض علامات “الاجتماعي” في البلدان النامية، وحتى لدى النمور، ما قبل اعتماد التقويمات الهيكلية – المعلنة، منها، والغير المعلنة. لكن هل لا مفر من تدمير البنيات الاجتماعية في ظل النيوليبرالية؟ هل من أفق اشتراكي يمر عبر الديمقراطية، ولربما عبر تساكن طويل بين النظام الاشتراكي والنظام الرأسمالي الكوكبي؟
لابد من استحضار الأمل المشروع في دولة لـ”العيش المشترك”، “دولة للعيش أحسن”، للجميع، إذكاء الأمل في إرساء “دولة”، من الممكن أن تكون وتصير “اجتماعية”. لهذا الإمكان احتمال الوقوع، بشرط اعتماد التداول الديموقراطي”، ببلادنا. وهو ما يبرر وجود “بديل ديموقراطي – تقدمي” لليسار، كمنافس نظري وعملي للإبدال النيوليبرالي القاتل .
وللعلم، فإن المشروع التقدمي – الديموقراطي يضع – فعلا “المسألة الاجتماعية” في صلبه، وإن كانت الإكراهات الدولية – العولمة – تحد من نجاعة إحقاقه (…). وللعلم– أيضا- أن الدولة – كمفهوم هي “دول”، وأن اعتماد “الدولة” الاجتماعية” لن يزيدها إلا بيروقراطية على مكتبيتها، ولكن هذا شأن طبيعي، في الدولة العصرية العقلانية المركبة.
وللعلم، فبخصوم إبدال الدولة الاجتماعية موجودين ليس فقط من بين ظهراني الليبراليين، بل بين أضلع “الماركسيين – الجذريين، أنفسهم، من حيث تأكيدهم – تأكيد الماركسية عموما – على “الطابع الطبقي – الأداتي” للدولة. ولهم في ذلك الكثير من الصواب، وهو أمر حلّلَته وإنتقدته – بما فيه الكفاية والوضوح والتبسيط – الإيتيرودوكسية الماركسية / النيوماركسية، وغيرها (…).
وإذا كان من المبدئي – أيضا – اعتماد التحليل الملموس للواقع الملموس، فمن مخاطر الدوغمائية – أي كان لونها وشأنها – أن تحجب عن بعض معتنقي الماركسية الجذرية -اليوم – إمكانية الاستفادة من عناصر تحليلية براغماتية – عملية – آنية، سبق وأن قدمت بعضها إيترودوكسية أخرى، ألا وهي الكينيزية، وما بعدها، النيوكينيزية وإبدال الضوبطة (…).
وإذا كان من الغير الصائب اعتبار “المقومات” بمثابة نظرية في الدولة الاجتماعية الطرفية، أو بشكل عام، فبإمكان مشروع التنظير لها أن يستدمج العناصر في الكل، ولقوى اليسار التقدمي-الديموقراطي أن تستدرجها في استراتيجية أعم وأشمل، عبر تكتيكات مرحلية/ لتجميع شروط الانتقال النوعي نحو الديموقراطية.
إن المنحى الذي اتخذته الاختيارات السياسية ببلدنا نحو النيوليبرالية عزز “التصور المتطرف” لـ”لدولة المخزن” بالضرورة، حيث ظهر جليا اليوم – مع الحكومة الحالية- حكومة السيد أخنوش، خدمتها لصالح “الرأسمال الكبير”. ويكفي النظر إلى بنية الميزانية الضريبية للدولة – حتى يتبين تحيزها هذا لذاك، لا من حيث استجلاب الموارد، ولا من حيث توجيهها وتخصيصها. ليتبين من خلال كل ذلك “ذكاء” التصور النيوكلاسيكي الراديكالي – ذاك، وخدمته لبنية سياسية واقتصادية واجتماعية طبقية متقاطبة، وليتبين أن الدولة – المخزن- عدا بعض “الروتوش” و”الجير – كانت ولازالت دائما في خدمة أقلية اقتصادية – اجتماعية “مفترسة” متحلقة حول المركز.
وما دام ليس هناك دخان بدون نار – حيث تدفع دولة – المخزن في اتجاه مصلحة الرأسمال الكبير – المندمج معها، في عملية متداخلة، في ما يعرف بـ”زواج المال والسلطة”، من جهة، وتدفع – أيضا من حيث لا تدري – إلى تصلب مواقف بعض قوى اليسار الجذري، من جهة أخرى، فلعل الذي يغيب على هذه الأخير نظريا – على الأقل- هو إمكان أن تعمل دولة المخزن أيضا وبالموازاة، وفي عملية يشوبها الكثير من الكر والفر، على إلحاق الضرر والتأديب ببعض مكونات الرأسمال نفسه، لإحداث نوع من الاستقرار والتوازن الاقتصادي والسياسي للنظام. يسمح لنا النظر في التاريخ معرفة الشروط ولبس الرهانات التي تجعل دولة المخزن تتدخل -مثلا- من أجل كبح جماح تلك المكونات- أعلاه- عبر “التَّتْريك” والمراجعات الضريبية، إلخ (…)، وهي “موبيقات” نهجتها على طول احتكارها لمجال السلطة والثروة عبر التاريخ المغربي المعاصر..
ولهذا، فإن كان واضحا أن الدولة المغربية “طبقية”، فإن “جدلية السيطرة” للنظام تجعله، مرات ومرات، يعمل ضد قاعدته الاجتماعية – الأصل أو يستبدلها بأخرى، والذي عمل هو – وبالذات وفي الأصل- على تنشئتها، وجعلها تتعلق بأهذابه، وتتحلّق حوله من ضعفها – طمعا في رضاه !!(…)
لا يتوانى النظام من رفع شعارات المرحلة، وقد يكون شعار “الدولة الاجتماعية” واحد منها، وقد ينسينا شعار “ربط المسؤولية بالمحاسبة”، الذي استبشر البعض به خيرا. وقد نتعامل معه، أيضا، كرهان استراتيجي جدي، خاصة أن لهذه الأخيرة ما يميزها، احتمالا سياسيا في أن العمل ضد “الليبرالية المفترسة” ممكن، أي أن تكون anti-libérale، بل وحتى احتمالا أن تكون “ضد الرأسمالية” anti-capitaliste، نفسها.
ولا يمكن أن ننسى مساهمة القطب الشرقي – السوفياتي ومن معه – في ما سبق – في تعزيز الحقوق الاجتماعية لـ “الشعب العامل”، في هذا المضمار مجال الدولة الاجتماعية، بالذات، ولا تترك جانباً تصور الانتقال الطويل نحو “نظام عالمي أحسن”.
وفقط، على ما يبدو، ربما وحدهم “النيوليبراليون المتطرفون” – فضلا عن “اليسار المتطرف” من سيجد في الدعوة للدولة الاجتماعية “ملهاة” و”وهم” مطبق. ومن الملاحظ – اليوم – التنكر البيِّن حتى للديموقراطية في قلاعها الأصل، وفي كبريات الدول الكبرى الدول الديمقراطية الكبرى، التي كنا نظن أنها متشبعة بها، وما قد يفسر نكوص نضالات بعض قوى اليسار الإصلاحي، وجدوى تجذرها خارج الإطارات التقليدية (…).
إذا كان لقوى التقدم والديموقراطية أن ترسم استراتيجية نضالية، فلها أن تستند حقا على “نموذج ناجع يكون بمثابة المقوم الأساس المتشبع بالخصوصية التاريخية – القطرية والثقافية. فلا يبدو أن “الدولة القوية (ساعف 2023) بالمعنى البسماركي / ألمانيا) -نهاية القرن 19 – قد تنفع – اليوم – في شيء ، إذ لا يمكن تمثيلها بالدولة المخزنية- الأمنية، عندنا، في شيء. كما أن “النموذج الليبرالي” الصريح لم يستطع بعد – ولربما – أبدا -القطع مع نظام الريوع المخزنية، أو حتى في المراكز الرأسمالية المتطورة- أو في بعض تخومها عبر العالم- لأن الريوع من طبيعتها البنيوية!
لهذا وذاك، يبدو أن ما يتناغم واختيارات تلك القوى – قوى التقدم والديموقراطية – هو اعتماد والعمل على تحقيق لبنات “النموذج الاجتماعي الديموقراطي”، كبرنامج سياسي اجتماعي – يساري بديل، في أفق تناوب ديموقراطي – حقيقي ممكن.
وعليه، إن إسناد مشروع الدولة الاجتماعية بالديموقراطية لهو الضامن الحيوي للحد من تغول برنامج النيوليبرالية – الطموح والمتناغم من حيث منطقه الداخلي – في سعيه المحموم لردم كل دعائم ومقومات واحتمال قيام مشروع “الدولة الاجتماعية” والمتمثل في “الحماية الاجتماعية”، وتقنين علاقات الشغل من حيث تطوير قوانين الشغل، والتفاوض الجماعي، والإضراب، وسياسة تشغيل منتجة، وإعداد مرافق عمومية وسياسات اقتصادية – في جانبها الاجتماعي على الخصوص، وذلك من أجل دعم الأنشطة الاقتصادية، وكذا التشغيل المنتج.
ولعل في هذه الدعائم ما قد يؤسس لـ”نظرية عامة” واعدة في “الدولة الاجتماعية” المسنودة بـ “الديموقراطية”، والمميزة في بلد “ما- بعد كولونيالي”، كالمغرب. وهو ما يعني -في الأول والأخير- العمل على تجاوز الطابع التقليداني لـ”دولة–المخزن”، واعتماد دولة العصر، بما هي “دولة عصرية” تعتمد المواطنة الكاملة لكافة مواطنيها – وليس لها رعايا !.
خاتمة: لابد من نظرية متميزة للدولة الاجتماعية الطرفية في ظل التيربوليبرالية العالمية.
وفي المحصلة، لم تستطع التيربوليبرالية وأذنابها المحليين خلق الشغل في القطاعات الجديدة ولا في مدنها وشوارعها ومُولاتِها (Mall) الجديدة، فضلا عن حد الأجور الزهيدة والتهميش والهشاشة والعنف. من الممكن أن تكون هذه الدينامية الاقتصادية – السياسية للرأسمالية العالمية، أكثر فعالية، لكن كلفتها الاجتماعية كبيرة، أكان في التعليم أو السكنى أو الصحة أو غيرها، باقتطاعاتها الحادة في المؤسسات الاجتماعية، وكذا المضايقة والهدر في باقي أضلع المجتمع والاقتصاد الشعبي.
ومن الملاحظ، كذلك، أنها لا تأبه بالمراقبة السياسية، وأشَّرتْ – ما مرة – على نهاية النقابات- والدول- الهامش، فازدراء الشغيلة وممثليها، وكذا عملت على تشجيع تبخر الرأسمال وتوسيع الخصخصة، بدءً بالجامعات إلى السجون، ومن المدارس إلى دور التقاعد، يهمها في ذلك، تعظيم الربح، دون طرح البتة لإشكالية إعادة التوزيع العادل والاستحقاقي للثروة والنفوذ والسلطة في البلاد والعالم.
وفي الختام، من الملاحظ أن هناك “نقاط ظل”، كما أن هناك “نقاط ضوء”، يمكن إستجلاءها في مسار ومقومات ونماذج “الدولة الاجتماعية” المقارنة، حيثما ظهرت كاملة – تاريخية في الغرب الرأسمالي – الليبرالي، وتباعا، إمكانها المحتمل في نطاق “الدولة الطرفية”، كالمغرب.
ويمكن للدولة المغربية، كدولة عصرية وليس مخزنية، أن تسمح بنفاذ الدولة الاجتماعية في المغرب، قد يضيق المجال أو يتسع، حسب موازين القوى الاجتماعية السياسية، شرط اعتماد مبدأ التناوب الصريح / التداول الديموقراطي على السلطة. بمعية “الديمقراطية الحقّة”، يمكن للدولة الاجتماعية أن تحدث “ثورة” على النظام النيوليبرالي، بما هو “ثورة مضادة” على مكاسب الأجراء و المواطنة، عموما، ويمكن اعتبارها من هذه الزاوية أكثر من “بديل له”.
وللتقدم في التنظير للدولة الاجتماعية ” ما- بعد كولونيالية” في المغرب، من الممكن أن نقترح ما يلي :
- إعطاء “معنى واسع” للدولة الاجتماعية، لا يقتصر على التغطية الاجتماعية، فحسب، مع وجوب تحمل الدولة العبء الكبير للتكاليف؛
- إعطاء أهمية لـ”العيش الاجتماعي الأحس” للجميع، أو ما يعرف بـ “العيش المشترك”، على حساب ما يعرف بـ”المخاطرة للمقاولة” ولتغول التيربوليبرالية؛
- لا يمكن لمجموع المصالح الفردية الإثناء عن “المصلحة العامة”، ومن ثمة إمكان حتى وجوب إخضاع مصلحة الفرد أو الطبقة أو مصلحة الرأسمال المتغول لمصلحة التوازن المجتمعي والاستقرار السياسي العام؛
- مجال “الدولة الاجتماعية” هو المؤسسات والاشتراك، وليس التعاقدات في مجال
الإنتاج أو المداخيل وغيرها؛
- ويمكن مراجعة الدين العمومي حسب النجاعة، ومن أجل الصالح العام، ومجتمع المواطنة والمساواة، وليس لصالح الرأسمال، والكبير منه، خاصة، إعتبارا من أن العمق السياسي للدول الاجتماعية هو الديمقراطية وليس تداخل السلطة المخزنية والأعمال؛
- مجال الدولة الاجتماعية والديموقراطية المفضل هو “الدولة/ الأمة” وليس العولمة
السلعية، فسيطرة الرأسمال المطلقة وتدميرها للأوطان كأقطار ذات سيادة؛
- الخروج من الأزمة هو تجاوز للنيوليبرالية المتوحشة، فاعتماد عولمة جديدة، أو الحد منها؛
- ليست “الدولة الاجتماعية” كل الدولة، وإنما هي جزء منها، وهو ما يتطلب نقاشا حول أي مجال وبأي طريقة سيتم بناء جيل جديد من الدولة الاجتماعية في العالم، وفي المغرب، ولن يكون ذلك إلا بإعلان تحدي قوي أمام العولمة وأمام التحدي الإيكولوجي(…)؛
- أظهر تغول “الكوكبية السلعية” حدود “المقاولة المواطنة” أو “النقابية التشاركية” في مجال الحوار الاجتماعي الأجري، ووجوب إذكاء أسلوب جديد في النضال الاجتماعي الشعبي والنقابي – الحقوقي، الخ؛
- كل هذا وذاك ينتصر لبديل للنيوليبرالية متمثل في الدولة الاجتماعية الديموقراطية “كفرضية أو أنموذج للتفكير والممارسة.
[1] – ما أود طرحه وهو رأي شخصي، لا يلزم بالضرورة أفكار مجموعة العمل حول” الدولة الاجتماعية” التي أنسق أشغالها بمركز بن سعيد آيت إيدر- البيضاء (2023)، هو طرح ومناقشة فرضية” الدولة الاجتماعية ” في بلاد الهامش الرأسمالي –كالمغرب.
[2] – المنهجية النفعية – العملية للدولة- المخزن نجدها على سبيل المثال في سياستها الاجتماعية للإسكان الشعبي، حيث تحضر الممارسة البراغماتية القوية، البيروقراطية والعنيفة، فتكسر مباني القصدير على رؤوس ساكنيها- انظر تجربة دور صفيح أمحيجر- الصخيرات ( 2023) ومقاومتها للإجلاء، تهيئا لإعداد التراب لصالح التيربوليبرالية، من أصحاب المال والأعمال والعقار الوطني والدولي. أنر أيضا مقال أراضي الكيش – لوداية – الرابط وبناء المدينة النيولبرالية الحديثة/ الواجهات في حي الرياض.
ذ.عبد الواحد حمزة
أستاذ باحث جامعة الحسن الثاني
المحمدية