ثقافة و فن

القصيدة واللوحة / لحظة عناق -محمد جزار

نظمت جمعية إشعاع للثقافات والفنون بالعرائش، بدعم من مجلس جماعة العرائش وإدارة المركز الثقافي ليكسوس ، الأمسية الفنية ” شعراء تشكيليون ” التي احتضنتها قاعة العروض بالمركز الثقافي ليكسوس باب البحر يوم السبت 10 فبراير 2024 مساء ، باستضافة المبدعين الشاعرين والتشكيليين عزيز أزغاي وفؤاد شردودي ، اللذين يحظيان بحضور مهم ومتميز في المشهد الشعري والتشكيلي المغربي .
قام بتنشيط وتنسيق فقرات هذه الأمسية الشاعر مخلص الصغير الذي استطاع ، بسلاسته وروحه المرحة ، وأيضا بحكم مواكبته الحثيثة لتجربة المبدعين ، أن يفتح شهية جمهور العرائش النوعي الذي حج إلى القاعة ، لتتبع أطوار الحوار ، بأسئلة ذكية حول تجربتهما التي تزاوج بين الكتابة الشعرية والفن التشكيلي ، في تواشج انفتحت معه القصيدة على الدلالات البصرية الغنية ، التي لم يفت الجمهور أن يكتشف جزءا هاما منها من خلال عرض بصري متحرك للوحات المبدعين ، بلمسات تقنية وفنية للأستاذ والفنان عبد الخالق قرمادي من حيث تأثيت الفضاء والإنارة وتصميم باقي المؤثرات الفنية .
في معرض كلمته المقتضبة ، شكر رئيس جمعية إشعاع للثقافات والفنون الشاعر محمد عابد كل الشركاء الداعمين لأنشطة الجمعية ، وأكد على أهمية النهوض بالفعل الثقافي بالمدينة ، مشيرا إلى التوجه العام للجمعية ، الذي تنبني فلسفته على تكسير الحدود بين الأنماط الفنية المختلفة من شعر وتشكيل ومسرح وسينما وموسيقى وغيرها.
لقد عمد مخلص الصغير خلال محاورته إلى إثارة مجموعة من الأسئلة المهمة ذات الصلة بعلاقة الشعر بالتشكيل ، وما تطرحه من إشكالات منذ القدم ، والتي يتداخل فيها التاريخي ، وتراكمات التقدم الحضاري البشري ، والتباين الحاصل بين التجارب الفنية بكل مدارسها وتياراتها المختلفة .
كما لامست الأسئلة التجربة الخاصة بكل من أزغاي وشردودي ، حيث الجميع ينصت بشغف إلى حكاية البدايات الأولى وطراوة الاحتكاك مع الألوان والخطوط والضوء والظلال والصور … ويكتشف ٱليات الاشتغال وأسلوب العمل لديهما .
لقد شكل الحوار أرضية خصبة فتحت شهية الجمهور للتفاعل وطرح الأسئلة وإبداء الملاحظات ، عبر مجموعة من المداخلات التي أسهمت في إغناء النقاش عبر التطرق إلى جوانب متعددة من تجربتهما حول علاقة الشعر بالتشكيل والصورة والتخييل، والإيقاعات المختلفة للكتابة أو الرسم ، ومسألة إنتاج المعنى ، كما تمت الإشارة إلى محنة اللوحة أو الأزمة التي يشكلها تلقي الصورة في الذهنية الجمعية وٱفة التقزيم إن لم نقل التحريم التي تطاردها ، بالنظر إلى العدد القليل جدا للمعاهد والأكاديميات والمدارس المهتمة بالفنون ، وأن المغرب يكاد يكون ، حسب عزيز أزغاي ، البلد الوحيد الذي لا تنصب فيه تماثيل ومجسمات في الساحات والفضاءات العمومية تؤرخ لشخصياته الكبار ورموزه التاريخية ، كما هو حاصل في تونس والجزائر ومصر وباقي بلدان المشرق العربي .
كما أتيحت الفرصة لقراءات شعرية ، حيث قرأ فؤاد شردودي قصائد من ديوانه الأخير ” كونشيرتو الجنرال” ، وهي قصائد مفعمة بالجمل البصرية . يقول في إحداها :
… وأنا لي معطف من ضوء لا لون له
ضوء لمن ماتوا
ضوء لمن نجوا من اضطراب الأمومة
وضوء أخير لعاشقة حملت إسمي معها إلى البلاد البعيدة .
كما أتحفنا عزيز أزغاي بقراءة قصائد من ديوانه الأخير ” الحياة قليلا ” . يقول في إحداها :
منذ قرون
وأنا أحمل راية بيضاء
فوق مقابر العائلة
ألوح بها لليأس
مثل ثقب ينزف
على هواه .
من الخصائص المهمة التي تميز تجربة الشاعرين التشكيليين أنهما ، رغم البصمة الخاصة بكل واحد منهما ، يكادان يذوبان في بعضهما ، فهما سليلا حساسية فنية وجمالية تنتمي للفن التجريدي ، وكونا معا صداقة حياتية وفنية عميقة ؛ فشردودي هو النصف الٱخر لأزغاي الذي يوجد على يسار قلبه . إنهما دوما منشغلان بإبداعات مطبوعة ببصمة خاصة تميزها عن باقي الأعمال الإبداعية الأخرى ، بتوجه لا يمكن أن نعزل فيه المبدع عن اختياراته الفنية والجمالية التي يتحكم فيها بالأساس السؤال الوجودي والقناعات الفكرية و الايديولوجية والسياسية ، وبينا هو يبحث عن قصيدته أو لوحته المنشودة والمفقودة في نفس الٱن ، يصاب بالتوتر واللارتواء ، ويكون ذلك حافزا لخوض غمار البحث المضني عن المعاني الغائبة ، فخلف كل صورة شعرية أو لوحة تشكيلية يقبع شيء زلق وهارب يصعب تحديده أو تملكه . يقول فؤاد شردودي في الغلاف الخلفي لديوانه الأخير ” كونشيرتو الجنرال ” :
أبحث عن جملة واحدة تقول كل ما في نفسي
جملة واحدة ، كتلك التي يقولها قبطان ، غمرت سفينته مياه البحر … “
إنه ، كما سمى نفسه ، طائر بجناحين يحلق بين سموات الشعر والتشكيل .
بينما عزيز أزغاي ، مشغولا بتجاذبات بياض الورقة والقماش المقلقة ، يجد نفسه كل مرة مطوحا به في سرير وهو يتقلب بين وسادتين ، وحين يتعبه الشعر ، المتعب أصلا ، يتوسد التشكيل لأجل الاسترخاء .
في مضمار التشكيل وفي سياق البحث عن المعنى دائما ، يذهب عزيز أزغاي إلى أن اللوحة تقول ببساطة نفسها بنفسها ، لأنها تشير إلى أشياء ، في إدهاشها الأول والطري ، حيث تثير المتلقي ، تستفزه وتغمزه كي يشتريها ، وأن أي دخول في حوار معه ، من أجل تقديم شروحات ما ، يدمر كل المعاني والتمثلات الخاصة التي راودته ، لذلك فإن أزغاي يدعو إلى إعطاء الحرية الكاملة للمتلقي كي يرى ما يرى ، ويسافر في خياله ، ويكتشف بنفسه ، ويخلق متعته الخاصة ، ويساهم بدوره في إنتاج المعنى .
إن مسألة إنتاج المعنى تظل إحدى الإشكالات الكبرى التي اشتغل عليها النقد الأدبي ، سؤال المعنى الذي يصبح في بعض الأحيان بدون معنى ، فالمبدع لا يهمه بالضرورة أن تفهم ، بقدر ما يهمه درجات الإحساس وما تخلفه اللوحة من توتر لدى الٱخر ، فالمعنى في اللوحة كما في الشعر شأنها شأن ما تخلفه العطور وإيقاعات الموسيقى والأصوات والأشكال والأبعاد الهندسية وغيرها من أثر ومزاجية ذوقية وتمثلات فنية وجمالية تختلف من متلقي إلى ٱخر . وكلما كان المتلقي ، حسب شردودي ، أكثر اطلاعا على ثقافة الألوان ، وذا خلفية معرفية مهمة ، كان أكثر تفاعلا وإسهاما في إنتاج المعنى .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى