ثقافة و فن

قصة قصيرة ” العبار فراسكم” د.عثمان المنصوري

دبت حركة غير عادية في السوق، فاليوم هو يوم الجمعة، وفيه يتفقد المحتسب الحاج علي أبجاو أحوال السوق بنفسه، صحبة أعوانه وعيونه. حرص أرباب الحوانيت على تنظيم سلعهم وعرضها بكل عناية، وكتابة أثمانها بوضوح، خوفا من التعرض لتوبيخ المحتسب أو سياط أعوانه، كما كنسوا واجهات دكاكينهم وما جاورها من الأزبال، ورشوا عليها الماء لتبدو في أحسن حال.
اختفى – بقدرة قادر – الباعة المتجولون والمتسولون والسماسرة المزعجون، والمعتوهون والمجانين وكل ما يسيء إلى جمالية السوق، كما اختفى البغالون ببغالهم التي تضايق المتسوقين وتلوث الأزقة بروثها.
كان الجميع في حالة تأهب قصوى عندما وصل الحاج علي أبجاو، محتسب المدينة ممتطيا صهوة بغلته الشهباء، وسط موكب كبير من الحرس والأعوان، والأعيان والمرافقين. وبعد وصوله إلى باب السوق، نزل عن بغلته، وسلم على بعض مستقبليه، ثم استهل جولته التفقدية المعتادة.
على الرغم من حرص الباعة الدقيق، تم ضبط بعض الحالات التي استوجبت تدخل المحتسب بالتوبيخ أو بتغريم المخالفين أو لسعهم بالسياط. كانت للمحتسب عيون في السوق، تمده بالمعلومات وما يقع من المخالفات، وتستقصي أحوال السوق يوما قبل مجيئه، حتى يكون على بينة منها وعلى معرفة مسبقة بأصحابها، وهو ما لم يكن يعلمه إلا القليل من الخاصة، والمقربين منه. وكانت العين هذه المرة على واحد من أكبر التجار، وهو الحاج عبد الجبار بنعلي المعروف بالشطايري، تاجر القماش بالقيسارية الكبرى.
حين وصل المحتسب إلى حانوته الكبرى هرع إليه الحاج عبد الجبار مرحبا ودعاه إلى الجلوس، لكنه رفض، وذكر له أنه لم يأت للضيافة، وإنما لتفقد أحوال السوق. كانت الحانوت كبيرة، ولها بابان، لأنها في الأصل كانت حانوتين، جمعهما في محل واحد بعد أن كبرت تجارته وازداد حجم معاملاته التجارية، فجعل على كل باب أحد معاونيه، واحد يتكلف بشراء ما يعرض عليه من أثواب وأحزمة وجدائل، وآخر لبيعها إلى العموم.
تفحص المحتسب السلع المعروضة، وجال بعينيه في المحل، وسأل عن أنواع السلع وأثمانها، وشرع في إبداء ملاحظاته. سأل قائلا:
– أين اثمان السلع؟ لماذا لم تضعها فوق كل سلعة ليتبين المشترون ثمنها؟
– تعلمُ سيدي الحاج أن الناس لا يقبلون بتحديد الثمن، فطبعهم المساومة، ومهما حددت الثمن سيساومون من أجل تخفيضه. “والله يجعل الغفلة بين البائع والشاري” .
– أي غفلة يا رجل. هذه ليست غفلة، إنها سرقة.
– أعوذ بالله، حاشا سيدي المحتسب. تعال يا مسعود. من الآن أكتب على كل بضاعة ثمنها. “ما تبقى غير على خاطرك نعاماس” .
– الأمر لا يتعلق بي بل بحقوق الناس. وإذا عدت ولم أجد الاثمان واضحة على السلع، سأجلدك أمام الملأ.
كان صوت المحتسب قويا مجلجلا، وتهديده مخيفا، اضطر معه الحاج عبد الجبار إلى طأطأة رأسه والخنوع ، بعد أن اقتنع أن مرور المحتسب هذه المرة غير مروره في سائر الأيام الأخرى.
عاد المحتسب لتفحص الحانوت جيدا. كانت لديه أخبار يريد التأكد منها. لاحظ أو ربما بلغه المخبرون بذلك، أن الرجل الذي كلفه الحاج عبد الجبار بشراء السلع وقياسها طويل القامة، وأن الرجل المكلف بالبيع متوسط الطول يميل إلى القصر، فسأل عنهما:
– ما هي مهمة هذين الرجلين؟
– هما مساعدان لي في البيع، أحدهما وهو مسعود على اليمين وهو مكلف بقياس وشراء ما يرد علي من السلع، والثاني واسمه مبارك، وهو مكلف بقياس وبيع ما يشتريه الزبائن.
– وأين “القالة”؟
– هه نحن لا نستعملها في القياس.
– لماذا؟
أمام نظرات المحتسب الغاضبة، استطرد الحاج عبد الجبار قائلا:
– نحن هنا نبيع ونشتري حسب السنة النبوية الشريفة
– كيف ذلك؟
– نتعامل بالشبر والذراع والباع.
– لكن علماءنا وهم من هم في العلم والتقوى قرروا أن يتم التعامل بقياس واحد ومضبوط، ومعلوم عند الجميع. هو القالة. ولا أحد يستثنى من ذلك، لضبط المعاملات وتجنب الغش.
– في الحقيقة نحن نتعامل دائما هكذا، ولكنني سأتعامل منذ الآن ب” القالة”.
– وماذا عن معاملاتك السابقة؟
– ما بها؟
– أنت منذ زمن طويل، تستغل السنة النبوية للربح، فمسعود الطويل ذو الباع والذراع الطويلين هو الذي يقيس ما تشتريه من أقمشة وشرائط وأحزمة، فيأخذ من الناس أكثر مما يستحق، أما مبارك، فيبيع للناس ويقيس الأقمشة بباعه وذراعيه القصيرين، فيأخذ منهم حقهم أيضا، وفي الحالتين معا تحصل على أرباح عن طريق التدليس والغش. ومن غشنا فليس منا.
احمر وجه الحاج عبد الجبار خجلا، وتصبب عرق جبينه من الحرج الذي تسبب له فيه المحتسب أمام الملأ من التجار والمرافقين وعامة الناس من المتحلقين على الموكب، وأراد أن يبرر من جديد موقفه، لكن المحتسب نهره بشدة، وصاح به:
– والله لولا ما نعرفه من مكانة والدك وورعه، ومكانة هذه القيسارية، لأمرنا المعاونين بجلدك بالسياط أو حبسك ورفع أمرك للقاضي، لكننا سنكتفي بذعيرة 500 دينار، توزع على المحتاجين من الأرامل واليتامى.
– لكنني …
– أسكت …لم أنته بعد، ولا أريد منك كلمة واحدة. أين البراح؟
أطل البراح من بين المتحلقين وأجابه: – أنا هنا آلسي المحتسب.
عليك أن تعلن حالا في المدينة كلها، وداخل السوق أن من أراد التعامل مع الحاج عبد الجبار بن علي الشطايري، فإن القياس سيكون لمدة شهر كالآتي: من أراد الشراء منه فإن القياس سيكون بذراع وباب مسعود الطويل، ومن أراد أن يبيع له فإن القياس سيكون بذراع وباع مبارك القصير. وليعلم الحاضر الغائب. ثم وجه كلامه للجميع قائلا: بعد شهر سيلتزم الحاج عبد الجبار بالقالة التي اتفق عليها تجار وعلماء المدينة.
واصل المحتسب جولته التفقدية بدون أن يعبأ بالحاج عبد الجبار الذي كان في حالة من الذهول، يحوقل ويضرب كفا بكف، وبدأ الجمع أيضا ينفض عنه ما بين شامت ومستنكر ومحوقل. ولم يلبث المحتسب أن ركب بغلته الشهباء مغادرا السوق، ومنهيا جولته التفقدية الأسبوعية. وما أن كاد يغيب عن الأنظار، حتى بدأت الحياة تدب من جديد، بشكل مغاير. حضرت حليمة الغائبة، وشرع الباعة المتجولون في الظهور هنا وهناك، ومعهم جحافل المتسولين والمتسكعين وغيرهم من رواد السوق الدائمين، وظهرت الدواب تشق طريقها بين الدروب، وعاد الضجيج ليؤثت فضاء السوق، متزامنا مع صوت البراح الذي كان يعلو على جميع الأصوات وهو ينادي: ” آعباد الله ما تسمعوا إلا خير.. من اليوم اللي بغى يشري من الحاج عبد الجبار بن علي الشطايري، عبارو عند مسعود الطويل، واللي بغى يبيع لو عبارو عند امبارك القصير…”.

عثمان المنصوري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى