ألكسندرا رو: “ما تدين به الحرية للحقيقة في الفلسفة الأخيرة لشيلينج” (الجزء الرابع)

أحمد رباص
3- بأي معنى يمكن أن نقول إن قانون العدالة هو قانون خارجي؟
تأمل شيلينج في “ديكي” الذي لا يرحم في المأساة اليونانية، ليجعل منه رمزا لقانون العدالة هذا الذي يسود على الإمكانات وواقعها: يجب أن يظهر هذا القانون كقوة في حد ذاتها، مستقلة، عنيدة، ومستقلة إلى حد ظهورها لا مستقلة عن الإنسان فحسب، بل عن الله كذلك. والسؤال هو ما إذا كانت كذلك حقا.
إنها مستقلة عن الإنسان بلا شك: لم يضع الإنسان قاعدة العدالة هذه. كونها مؤلمة، أو أنها تبدو قاسية بالنسبة إليه، يأتي من واقعة أنها لم تعد موجهة – بسبب السقوط – إلى العقل، بل إلى الإرادة، إلى حد استيعابها كقانون خارجي. ومن ثم، لم تعد موضوع المعرفة الحميمية أو الداخلية: إنها تفرض نفسها كقانون خارجي تماما عن إرادتنا؛ تأتي لتعنفها وتبذل جهدا عليها. إن صرامة كانط تعطينا، وفقا لشيلنج، فكرة قريبة عن هذه الحتمية، حيث نشعر بأن القانون الأخلاقي مؤلم رغم استيعابه واستبطانه. الآن، بالنسبة إلى شيلنج، هناك سبب لهذه الواقعة: هو أن الإرادة البشرية قد تمزقت، وسلطتها الأنانية تجلت ضد الكوني؛ انقلب نظام القوى، وذلك بسبب خطإ الإنسان. كما أن كل قسوة قانون العدالة تفسر بهذا الخطإ.
ومع ذلك، فإن هذه القاعدة ليست مطلقة من الناحية الخارجية. أولا، تجدر الإشارة إلى أن الأمر ليس خارجا عن الإمكانات التي يُقدَّر لها، وفقا لها، أن تتحقق بطريقة شاملة: فالإمكانات تنطوي في داخلها على نوع من نفاد صبر على تحققها، نفاد صبر غير نشط طالما أن الله لا يدخل في الفعالية، بل نفاد صبر نشط حالما يطلق العنان للقوى بحرية. يعبر بالضرورة ميل كل منها عن نفسه، بحيث تصبح جميع الإمكانات حقيقية: إنها مسألة وقت فقط، عاجلاً أم آجلاً سوف يملأ كل واحد منها بدوره كأس الواقع. يرفض شيلينج، دون أن يقول ذلك، التصور الذي اقترحه لايبنتز عن الخلق الإلهي: بالنسبة لشيلينج، فقط ما يميل في الواقع إلى أن يصبح حقيقيا هو الممكن. نجد عند لايبنتز فكرة أن الإمكانات كلها لها “ادعاء بالوجود”، “متطلب معين للوجود”. لكن مثل هذا الشرط له معنى هرمي وليس دينامي: فالإمكانات، كما كتب لايبنتز في أحد كتيباته، “حق متساو في الوجود، بما يتناسب مع درجة الكمال التي تنطوي عليها”. قانون آخر غير قانون العدالة كما رٱه شيلينج هو الذي يسود عند لايبنتز: إنه قانون الإمكانات القصوى المحققة. يفترض تحليل لايبنتز وجود فائض من الإمكانات في ما يتعلق بالمخلوق. ليس من المستغرب أن يطرح مسألة ما هو متماكن وما هو ليس كذلك. وهكذا، بالنسبة إلى لايبنتز، فإن “العالم المتحقق هو الذي يحقق الحد الأقصى من الإمكانات”، بينما بالنسبة إلى شيلينج، فإن العالم المتحقق هو بالأحرى العالم الذي يحققها جميعا.
قاعدة العدالة لا تأتي من الإنسان، لكن هل تأتي من الله؟ لا شيء أكثر سواء! فهل يعني هذا أن هذا القانون خارج عن الله ويفرض نفسه عليه كما يفرض نفسه على الإنسان؟ مصدره هو العقل الذي، في الواقع، بالنسبة إلى شيلينج، لا يتلقى قاعدة العدالة هذه من الله. كل شيء ممكن موجود في العقل أو في الكوني. في الواقع، كل إمكان هو ما يجب التفكير فيه أولاً، قدر الإمكان، أي تبجيله والاعتراف به وتثبيته وفقا للعقل وحده. ومن ثم فإن العدالة عقلانية تماما، وقانون العدالة هو قانون العلم ذاته. وهو ما يؤكد أن المعنى الذي كان يحمله هذا القانون في ما يسمى بنظام “الهوية” قد تم الحفاظ عليه. إنه يحتفظ ببعد أبدي، أو عقلاني بحت، يمكن أن تنعكس منه الفعالية: كل ما هو ممكن يشكل في نفس الوقت كل ما هو واقعي. لأن كل إمكان له الحق في الوجود، وفي الفعالية، بحيث أنه بافتراض هذه الفعالية، فإن كل ما هو ممكن يجب أن يتحقق. لذلك يجب علينا أن نستنتج أن كل شيء عقلاني يجب أن يتحقق، منذ اللحظة التي يقرر فيها الله الذهاب بطريقة ما إلى الفعالية.
وهو متميز بأصله عن الخالق الحر، لا يُفرض عليه هذا القانون من الخارج. لأننا لا نستطيع أن نقول إن الله، كإرادة، يجعل نفسه مستقلاً عن قاعدة العدالة، كما هو الحال مع الإنسان. باعتباره حرية، الله مستقل عن قانون العدالة. إنه غير قابل للاختزال إلى العقل في حد ذاته، وبالتالي إلى هذه القاعدة ذات المصدر العقلاني. هل هذا يعني أنها غريبة عنه تماماً؟ يعتقد شيلينج على العكس من ذلك أن العقل نفسه، الذي منه تأتي هذه القاعدة، مرتبط بالله بطريقة ضرورية. ولكن كيف يمكن تصور ذلك إذا كان الله هو الحرية؟
(يتبع)