ثقافة و فن

الشامبري لفداء سباعي سينما الألغاز و الالتباس -نورالدين بوخصيبي

نورالدين بوخصيبي

مع أننا، بصدد فيلم الشامبري، إزاء فيلم قصير لا تتجاوز مدته عشرون دقيقة، فإن هذا الفيلم المتميز يأسر المشاهد من الوهلة الأولى، أو يحتجزه بالأحرى ضمن لعبة مرآوية معقدة يتصادى بداخلها الكون الفيلمي مع الفضاء المتفرجي داخل توليفة تنصهر بها كل الأجزاء داخل بنية متماسكة.

   ” الشامبري” شريط قصير من إخراج فداء السباعي. و هو مخرج شاب، هادئ، وديع، من عاصمة البوغاز. و هو كذلك كاتب سيناريو و موضب. حصل على الإجازة المهنية في السينما و السمعي البصري سنة 2011، و على دبلوم التقني المتخصص في التصميم الجرافيكي. مما أهله لإنجاز عدد من الأفلام القصيرة اختار لها العناوين التالية: ” غريزة” (2012) ، ” اللغز” (2014) ، ” الشامبري” ( 2024) ، إلى جانب شريطين وثائقيين هما ” بالنسبة ليلي أنا” ( 2010) و ” انسوا القشلة” (2011)

     ينهض فيلم ” الشامبري” من البداية على لعبة التباسات تضع المتلقي داخل دوامة من الألغاز و الأسئلة المنفتحة على كل الاحتمالات. و هي بذلك تشد المتلقي من بداية الشريط إلى نهايته داخل أجواء كلوستروفوبية صادمة. تنطلق لعبة الالتباسات هذه بداية من عنوان الفيلم الذي يحمل دلالتين مختلفتين. الدلالة الأولى المباشرة هي الغرفة، بمعناها المتداول، اليومي، المألوف، و دلالة أخرى استمدها المخرج من اللغة المتداولة عند سكان مدينة طنجة في إعادة تأويلهم لكلمة الشامبري الإسبانية، هي الزنزانة، بما تحيل إليه طبعا من معاني السجن و الأسر و المعتقل. نجد أنفسنا إذن من بداية الشريط إلى نهايته محتجزين داخل غرفة ضيقة، لكنها ليست غرفة خالصة، إنما هي غرفة / زنزانة، بقدر ما هي منغلقة بشكل كبير، فهي في نفس الوقت مفتوحة على كل الاحتمالات و الأسئلة.

    بذلك يسجل فداء شريطه ضمن امتداد خاص هو امتداد سينما الأبواب المغلقة، التي يمكن اعتبارها بمثابة جنس سينمائي أنتج عددا من الأشرطة العالمية، أذكر من بينها شريط ” غرفة” Room (2015) إخراج ليني أبراهامسون، أو شريط Panic room  ( 2002) إخراج دافيد فنشر، أو ميزري (1990) لروب رينر، أو الدفين Buried (2010)، لرودريغو كورتيس،  هذا الأخير تجري أحداثه داخل تابوت، مع العلم أن للفيلم القصير خصوصيته التي تجعله مختلفا عن الأشرطة المطولة.

    في فيلم  الشامبري نجد أنفسنا إذن داخل غرفة / شامبري يقيم بداخلها شاب يعيش في شبه عزلة عن العالم الخارجي. و طيلة الفيلم نظل مع هذا الشاب الذي نجهل كل شيء عنه. لا نعرف لا اسمه و لا ماضيه و لا مستقبله. لا نعرف لماذا يقيم بهذه الغرفة رغم ما يحيط بها من ضجيج حاد يصم الآذان.  يدخل الشاب الغرفة مع بداية الفيلم.  يخلع قميصه و يعلقه قريبا من الباب. لكنه لا يتكلم. لا يتواصل مع الآخرين بشكل مباشر. دائم الخوف و الحذر. دائم التوجس و التربص. لا يملك سوى نظراته المندهشة، الفاحصة. يتفحص كل شيء بالغرفة كأنما هو يرى الأشياء للمرة الأولى. و مثل قرد مرعوب، يقفز مذعورا و يتراجع إلى الخلف عند اقتراب أحد منه، أو عند سماع صوت ما. يذكرنا هذا بردود فعل بعض البدائيين حين تصدمهم منتجات الحضارة الحديثة. 

  بعد لحظة من دخول الشاب الغرفة، و انهماكه في تفحص أشيائها البسيطة، التافهة، التي ترصدها الكاميرا بلقطات ثابتة جد معبرة، نافذة، مرآة، مسمار في الحائط، حجرة مكسرة لإغلاق الباب…، يتوافد ثلاثة أشخاص على غرفة الشاب إما بشكل متزامن أو متعاقب. رجل في حوالي الخمسين من عمره يقتحم الشامبري، يبدو من هيئته أنه يرمز للقوة و السلطة و النفوذ. رجل آخر في نفس عمره يبدو من هندامه أنه عامل بالأشغال العمومية. يلقي الرجلان داخل الغرفة سريرا يبدو فاخرا بالمقارنة مع فراش الشاب المبسوط أرضا في الزاوية القصوى من الغرفة. بذلك يخلق الرجلان عنده أفقا للأمل و الحلم. لكنهما سرعان ما يبددان هذا الأفق بما يلحقانه بالسرير من خسارات و ثقوب بأساليب عنيفة. بقسوة رهيبة. بينما الشخص الثالث، امرأة، تتقدم بدورها داخل الغرفة، و تقوم برتق الثقوب المحدثة بالسرير، بشكل ناعم مقارنة مع العنف الذي يمارسه الرجلان. يتنامى العنف بشكل تصاعدي من خلال الوحشية التي تمارس على السرير بأشكال مختلفة، و تمارس بالتالي على الشاب نفسه، الذي ما يلبث أن يفقد أعصابه، و يصرخ منتفضا ليواجه بعنف حاد من قبل الشخص رمز القوة و السلطة، مما يجعله يدخل في حالة من الانهيار التام، فيما يبدو الشخص الثاني غارقا في تدخين الكيف، مكتفيا بالنظر بنوع من اللامبالاة غير عابئ بما يقوم به و ما يجري من حوله، كأنما هو من كوكب آخر غير كوكبنا الأرضي هذا.     

       يتنامى المحكي من الخارج إلى الداخل. الفعل يأتي من الخارج.  رد الفعل من الداخل. لا نشاهد ما يقع خارج الغرفة. خارج الحقل يصلنا فقط عبر الضجيج والصخب الخارجيين. لكننا من خلال دخول و خروج الشخوص، نستطيع أن نخمن ما يقع بالخارج. بتعبير آخر، لا وجود لخارج الغرفة إلا كبناء ذهني يتحدد من خلال التلاقح الممكن بين خيال الشخصية الوحيدة في الشريط و خيال المتفرج. غياب الخارج بصريا يطلق العنان لذهن المتفرج لطرح الأسئلة. و هو ما يمنح الشريط خصوبته و ديناميته. ينضاف إلى ذلك غياب الحوار المباشر في الفيلم من بدايته إلى نهايته ؛ مما يعيدنا إلى زمن سابق هو زمن السينما الصامتة، يترتب عنه أيضا إذكاء خيال المتفرج الذي يظل محجوزا داخل كماشة انتظار ما سيحدث من بعد.

    كل شيء في الفيلم يعيدنا أو يكاد إلى بدايات السينما. الصمت الذي قال عنه شارلي شابلن يوما إنه ” ماهية السينما”، البياض الذي يعيد إلى الأذهان بشكل ما سينما الأبيض و الأسود البدائية، و الحركة المحدودة جدا للكاميرا التي تذكرنا هي أيضا بالمحدودية التقنية لسينما البدايات، كما ببعض أشرطة ياسوجيرو أوزو البطيئة جدا في حركيتها، مع الفرق الشاسع طبعا بين المنظورين. لكن الفيلم لا يحترم هذه الأساليب بشكل مطلق. ذلك أن الفيلم لا يقلد قواعد سينمائية محددة سلفا. إنه يجرب و يمتح من أشكال جديدة غير مألوفة.

    يقترح الشريط “بطلا” بلا هوية محددة. لأنه بلا ماضي و بلا ذاكرة و لا تاريخ محدد. و هو فوق ذلك محروم حتى من خصوصيته و أمنه، لأن الغرفة الزنزانة بابها بدون قفل. الشاب لا يملك مفتاحا يمكنه على الأقل من حفظ خصوصيته و قسط من استقلاليته.  إنه لا يملك سوى نظراته  التي يلقيها على الأشياء الصغيرة من حوله باندهاش كبير. كل شيء غامض و ملتبس و عنيف كما قلت في البداية. و هذه عموما هي سينما ” الأبواب المغلقة” التي تخلق حالة من الإثارة النفسية الحادة و درجات قصوى من العنف النفسي الرهيب. لنفكر هنا في فيلم ” شايننغ” لستانلي كوبريك حيث يصل العنف أقصى مداه مع سعي بطل الفيلم إلى قتل أقرب الناس إليه، زوجته و ابنه. لنستحضر أيضا أجواء شريط ” ميزري ” حيث تصب بطلة الفيلم على المؤلف عنفا رهيبا لتجعله يغير مسار أحداث روايته. أكثر من ذلك، إن قاطن الشامبري لا يملك حتى اسما شخصيا يمنحه هوية خاصة به. لذلك فهو بسبب هذه النواقص جميعها، يجد نفسه عرضة لكل أنواع العنف و العسف و الاغتصاب. اغتصاب الغرفة هو اغتصاب لجسده الخاص، لنفسيته و روحه و هويته.

   من هنا تتحدد التيمات الرئيسية في الشريط. و هي تيمات العنف و الاغتصاب و الانتهاك و الضياع و العزلة و اللاتواصل. التواصل الوحيد الممكن في الشريط هو تواصل العنف. لكن التيمة الكبرى التي تحتضن بداخلها جميع التيمات الأخرى هي تيمة قتل أو وأد الحلم. الشاب فقد القدرة حتى على الحلم. و طبعا حين يغدو الإنسان عاجزا عن الحلم، يصير عاجزا عن القيام بأي شيء آخر، لأن الحلم هو الطاقة الكبرى التي تحفز الكائن على الفعل و العمل المتواصلين. باختصار الحلم هو الحياة.

    لكن فداء لا يقدم رسالة واضحة مباشرة من خلال فيلمه هذا. يمنحنا الفيلم بالعكس مجموعة ألغاز تنضاف إلى ما طرحه في فيلمه السابق ” اللغز”، الذي يعتبر فيلمه هذا امتدادا له. بذلك يدشن أفقا سينمائيا خاصا به يندرج ضمن ما يمكن نعته بالسينما اللغز. و هذا طبيعي بالنظر إلى السياق الذي نشأ و ترعرع فيه هو و أبناء جيله.  و كذلك السياق الذي ظهر فيه فيلم الشامبري، و هو سياق ما بعد كورونا، و ما بعد فترة الحجر الصحي الرهيبة، و كذلك سياق الحرب الروسية الأوكرانية، و الحرب على غزة التي تعرضت لأبشع غزو عرفه التاريخ البشري إلخ… حيث فقد العالم كل معانيه و قيمه النبيلة، و تضخمت الألغاز و تفاقم الغموض في سمائه بشكل غير مسبوق، و فقد الإنسان ما تبقى له من إرادة و حرية، بحيث إننا تجاوزنا بشكل كبير مقولة “موت الإنسان” التي أطلقها الفيلسوف ميشيل فوكو في القرن الماضي.

       ختاما، لا يفوتني أن أنوه بالأداء الجيد للممثل مروان بلعربي، الذي أدى باقتدار كبير و تمكن دور بطل الفيلم، و كذلك  التشخيص الجيد لباقي الممثلين الذي تحكم فيه المخرج بشكل كبير. كما لا يفوتني أن أنوه هنا بذكاء المخرج من حيث تحكمه في ميزانية الشريط التي رغم محدوديتها لم تحل دون إبداع عمل فني كبير، أهله للحصول على عدة جوائز آخرها جائزة أحسن إخراج و أحسن ممثل من مهرجان الجامعة السينمائية بمدينة الجديدة، و الجائزة الكبرى من مهرجان الفيلم القصير بمدينة برشيد، يختتم بها سنة 2024. و هو ختاما ينبئ بولادة مخرج واعد بالشيء الكثير، برؤية سينمائية عميقة، لا شك أنها ستحقن الفيلموغرافيا المغربية بدماء جديدة ما أحوجنا إليها في الظروف الراهنة.         

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى