نيتشه والمسألة الأخلاقية :من أجل أخلاق جديدة تمجد الحياة وتقوم على إرادة القوة-حسن تزوضى

يسعى فريدريش نيتشه في كتابه “جينالوجيا الأخلاق” إلى تفكيك الأفكار الأخلاقية السائدة من خلال قراءة تاريخية جينالوجية تعود إلى جذور القيم الأخلاقية وتحلل نشأتها وتطورها، وقد جاء مشروعه في سياق نقد الميتافيزيقا الغربية التي تعتبر الأخلاق احد الأعمدة الأساسية التي تقوم عليها. يقول نيتشه في هذا السياق :”لقد حملت على عاتقي القيام بمهمة لم تكن بأي حال من الأحوال مهمة الجميع، سأهبط إلى الأرض وسأقوم باختراق العمق ونسف ثقة راسخة وإيمان عتيق، فمنذ ألفي سنة والفلاسفة الذين هم نحن تعودنا البناء ومعاودة البناء فوق أرض اعتقدنا أنها صلبة في الوقت الذي نرى انهيارها تباعا لذلك سأبدأ بنسف ثقتي في الأخلاق” لقد بدأ نيتشه مشروعه بالشك في المفاهيم الأخلاقية التقليدية التي تُعتبر ثابتة وأزلية، مبرزا أنها ليست سوى نتاج صراعات تاريخية ونفسية بين طبقات اجتماعية مختلفة، متأثرة بمصالحها وظروفها، ففي اعتقاده الأخلاق ليست حقيقة موضوعية، بل بناء تاريخي يُعيد تشكيله الأقوياء والضعفاء في صراع دائم.
يبرز نيتشه طبيعة القيم الأخلاقية من خلال التمييز بين نوعين رئيسيين من الأخلاق: أخلاق السادة وأخلاق العبيد، يربط أخلاق السادة بالقوة والتفوق، حيث تُعرّف القيم الأخلاقية بناءً على ما يعكس الهيمنة والشجاعة والجمال، في المقابل ينشئ الضعفاء ما يُسمى بأخلاق العبيد التي تُضفي القداسة على التواضع والزهد والخضوع، كرد فعل على شعورهم بالعجز أمام الأقوياء. إن هذا الانقلاب القيمي لم يكن حركة بريئة، بل كان تعبيرًا عن شعور “الاستياء” الذي دفع الضعفاء إلى إعادة صياغة القيم بما يخدم مصلحتهم. يقول نيتشه: “إن ما يُسمى بالخير في أخلاق العبيد لم يكن سوى إنكار لما هو قوي، وما يُسمى بالشر لم يكن سوى ما يعبر عن إرادة الحياة.”
يتتبع نيتشه أثر التحول التاريخي الذي فرضته المسيحية بوصفها تجسيدًا الأخلاق العبيد(الزهد المتعالي) فالمسيحية قلبت المعايير الأخلاقية من خلال تمجيد الألم والمعاناة والزهد، مما جعل الحياة ذاتها شيئًا يجب إنكاره والتخلي عنه لصالح العالم الآخر، فالقيم المسيحية في نظر نيتشه دفعت الإنسان إلى الشعور بالذنب والخطيئة مما أدى إلى قمع إرادة القوة لديه، يقول نيتشه: “لقد كانت المسيحية الكارثة الكبرى التي شوهت طبيعة الإنسان، وحولته إلى كائن يشعر بالخجل من إرادته ومن حياته.”
يكشف نيتشه في تحليله ونقده للأخلاق أنها ليست منفصلة عن الجمال، بل تتداخل معها في تشكيل الأحكام والقيم، يربط بين الجمال والمعايير الأخلاقية، حيث تُقيّم القيم أحيانًا بناءً على انطباعات جمالية أكثر من كونها أخلاقية بحتة. يقول في هذا السياق :”إذا قتلت صرصور فأنت بطل، أما إذا قتلت فراشة فأنت شرير.. الاخلاق لها معايير جمالية ” فما يبدو جميلاً يُعتبر غالبًا جيدًا وخيرا، وما يبدو قبيحًا يُدان باعتباره شرًا، فهذا التداخل يعكس هشاشة الأسس التي بُنيت عليها الأخلاق التقليدية. يضيف نيتشه قائلا : “الحكم الأخلاقي ليس إلا تحيزًا جماليًا يتنكر في هيئة حقيقة مطلقة.”
يدعو نيتشه إلى تجاوز الأخلاق التقليدية من خلال قراءة جينالوجية لهذه القيم تعيد النظر في جذورها وتقيمها وفقًا لمعايير جديدة. يرى أن الحكم على القيم الأخلاقية لا يجب أن يكون بمعايير الخير والشر المطلقة، بل بمعايير جمالية تعكس قدرتها على تعزيز الحياة وتمجيد إرادة القوة. يقول: “السؤال الذي يجب أن نطرحه على القيم ليس: هل هي حقيقية؟ بل: هل تُثري الحياة وتُمكن إرادة القوة؟”
يطرح نيتشه مفهوم “الإنسان الأعلى” (superman) كبديل للأخلاق التقليدية، إنسان يتجاوز القيود الأخلاقية القديمة ويبتكر قيمًا جديدة تعبر عن إرادته الحرة وقوته الإبداعية، هذا الإنسان يقول نعم للحياة بكل تناقضاتها ويرفض الانصياع لمفاهيم الضعف والخضوع، يقول نيتشه:”الإنسان الأعلى هو الذي يخلق الجمال من إرادته، ويقول نعم للحياة بدلاً من إنكارها.”
يعيد نيتشه من خلال “جينالوجيا الأخلاق” تعريف مفهوم الأخلاق،ليس باعتبارها مطلقة أو عالمية، بل كنتاج لصراعات تاريخية وظروف متغيرة، بمعنى أن قيم الخير والشر ليست قيما ثابتة بل متغيرة حسب تغير موازين القوى،فما يعتبر خيرا اليوم قد لايبقى كذلك غدا، فالاخلاق فرضت بالقوة ،فكل المعايير الاخلاقية تفوح منها رائحة الدم على حد تعبير نيتشه، فالأخلاق التي تمجد الضعف والخضوع ليست إلا وسيلة لإخضاع الإنسان وتقييد إرادته، ولذلك لابد من هدم هذه القيم التقليدية وبقوة ،لابد من أخلاق بديلة تحتفي بالحياة والقوة والإبداع، وتعيد تقييم القيم بناءً على معايير جمالية تعترف بجمال إرادة الإنسان الحرة وتميزها، إنه انتصار ديونيزوس المحب العاشق المقبل على الحياة على حساب أبولو الصارم العقلاني والمتعالي.