“سندويتش” مدونة الأسرة! عبد اللطيف أجدور

تتعرض المجتمعات التي ظلت متمسكة بجذورها الثقافية، رغم مدّ العولمة وهوس الاستهلاك خلال العقدين الأخيرين، لهزّات شديدة في السنوات القليلة الماضية، لأن الأنساق الاقتصادية السائدة اليوم، جعلت الشعوب والأنظمة التي تحكمها أكثر ارتباطا بالامبرياليات الكلاسيكية، لا سيما بعد أزمة كوفيد 19، وأزمة الطاقة الأخيرة المرتبطة بالحرب الروسية الأوكرانية.
أقدم المغرب في نفس السياق، على فتح ملف من أكثر الملفات تعقيدا وتركيبا، لأن مراجعة مدونة الأسرة ليس مجرد مراجعات قانونية وفقهية، وسن تشريعات وحذف أو تعديل أخرى، إنما هو إعادة ترتيب العلائق بين أفراد المجتمع على أساس التوجهات والاختيارات الكبرى للدولة، تلك التي ستحدد الأنساق الاجتماعية والاقتصادية التي ستطبع بنية البلاد على المديين المتوسط والبعيد.
تتأثر الأسرة المغربية كذلك، في ظل الفجوة الروحية والحيرة الثقافية التي يعيشها المجتمع المغربي اليوم، بتحديات كبيرة تؤثر بشكل مباشر على كيان الأسرة ومفهوم الزواج. إن الطلاق، كأول عارض لتدهور مفهومي الزواج والأسرة، لم يعد مجرد إنهاء لعلاقة زوجية، بل أصبح تعبيرًا عن تحولات عميقة في مفاهيم الطاعة والقوامة والعشرة والسكن.
تشهد هذه العلاقة المقدسة، التي عبرت عنها نصوص الوحي بالميثاق الغليظ، والنصوص التشريعية بالرباط الدائم، أزمات مركبة عميقة، تتجلى في الخيانات الزوجية الحقيقية منها والمجازية، والعنف الرمزي والمادي بين الأزواج الذي أصبح لا يمكن تصوره. بسبب غياب الوازع الروحي، وانسحاب السلطة الأخلاقية أمام سلطة الاستهلاك التي خلفت فراغًا كبيرًا، وضيعت بوصلة الهوية، حيث لا توجد منظومة تربوية تصون، أو حتى ترسانة قانونية تزجر لتحمي، الأسر من الجهل والعنف والضياع والعبث، خاصة الأطفال.
يتضح تلكؤ التشريعات المغربية حتى اليوم، في العجز عن الحفاظ على التشريع الإسلامي وحده، ركيزة للتشريع الأسري، والذي بلا شك له مسوغات عديدة، ووجه حق بيّن، لأن المنظومة الفقهية القديمة من الأحكام التي تضبط علاقات الأسرة، لم تعد صالحة بتاتا. تبعا للتحولات الجذرية التي طرأت على أدوار الرجل والمرأة في المجتمع، وأنماط عيشهما، وإسهاماتها في القطاعات الاجتماعية والاقتصادية. ما يقتضي تكييف العديد من التفصيلات، المترتبة عن فهم نصوص الوحي حفظا لمصالح الأفراد، باعتبارها غايته الأولى، ودرء للتباعد التاريخي بتعبير العروي، بين أحكام معينة توجه لظروف معيشية غير التي وجدت من أجلها ابتداء. وهو ضرب واضح من الحمق. لكن دون اتخاذ هذا المسوغ، ذريعة للتخلي عن التوجهات الشرعية الإسلامية جملةً، تحت ضغط المدّ الليبرالي، الذي يستعمل غالبا ورقة الاقتصاد.
يعجز المشرع المغربي كذلك، مع ذلك، عن الاعتماد الكلي على التشريع الوضعي، أمام الضغط الأصولي الذي ما يزال يلقى الكثير من الدعم بين عموم الشعب المغربي، لذا فإن هذه التجاذبات الإيديولوجية خلقت هجينًا يشبه أحيانا سندويتشا رخيصا يسع الأرز والبيض والجزر والتونة والبطاطس وكل ما يخطر لك على بال من مواد غذائية. هجين لا يوفر الضمانات الكافية لتصور يفي بمتطلبات الفرد والأسرة، بعيدا عن الحسابات الإيديولوجية الضيقة. يفرض بناءً تشريعيا يعكس تصورًا واضحًا وسليمًا للأسرة المغربية، ويبلور فلسفة متماسكة تحقق لها الاستقرار الاجتماعي والروحي والاقتصادي.
إن أزمة المدرسة العمومية منذ بداية الألفية، وأزمة القيم التي استفحلت مع الثورة الرقمية، تلقي بظلالها على الأسرة والمجتمع في المغرب كما في العالم. لذا فإن المدونة التي نؤمن بها يجب أن تتأسس على الرحمة والحسنى، لا مبدأ الكيل بمكيالين، وبمنطق الصراع الذي يستعمل فيه الرجل والمرأة بيادق لوح شطرنج. مدونة بنداها العريضان: قول الرسول الله صلى الله عليه وسلم: “خيركم خيركم لأهله”. وقوله: “…وأطاعتْ زوجَها قيل لها ادخُلي الجنَّةَ من أيِّ أبوابِ الجنَّةِ شئتِ”.
ينبغي الوعي العميق بأن الغايات النهائية لمؤسسة الزواج هي السكن، والعشرة، وتربية جيل سليم عاطفيًا ووجدانيًا، وليس التباهي أو الاستثمار المادي أو الإشباع الاستهلاكي. ثم ليس هو عيش الفانتازيات التي تصورها لنا الشركات الدعائية ووكالات الأسفار، وشركات العقارات والسيارات والعطور والملابس وأدوات التجميل. كما ليس هو الحرية الزائفة، وشعارات الفردانية الموهومة.
يجب أن تلعب الفعاليات المدنية والمثقفون الحقيقيون، وحاملو إيديولوجيات التغيير والإصلاح والنهضة أدوارهم موفورة، وتنتبه جميعها إلى توجه الأنظمة السياسية، لتصريف الصراعات بين الأفراد أفقيا، عبر خلق تطاحنات اجتماعية، أو اقتصادية، أو فكرية، داخل الجامعة وفي المدرسة والسوق والبيت، بين الفصائل الطلابية، وبين الزوجين، ورفاق العمل، وبين المثقفين، وبين رجال الإعلام والتعليم، ورجال الدين، على اختلاف توجهاتهم، التي ينبغي أن تتكاثف لتصب في اتجاه واحد، هو محاربة الفساد بكل أشكاله، وكف هدر الثروات، وطاقات الشباب وكفاءاتهم، وتحسين التعليم والصحة والبيئة، وتحرير العقل الإنساني، وحفز البحث والابتكار والمعرفة.
إن الزواج سنة طبيعية، تقيم عليها كل الكائنات نظمها وعيشها. بينما يرفض الإنسان، وحده، رغم أنه الكائن العاقل الوحيد، ربما، إعادة النظر في التشريعات والمنظومات التربوية والقيمية لحماية الأسرة وضمان مستقبل مشرق للأجيال القادمة، واستثمار رحلة الفلسفة الغنية، وعلم الاجتماع بكل ما توصل إليه من نظم مفيدة، وفضائل الدين، لتحسين حياة البشر، ودفعهم إلى حياة أبسط، وأسعد.