أحمد الخمسي في قلب الأوضاع(5):حديث الطنجية والطنز
كان تطواني يحتسي القهوة رفقة مكناسي في مقهى شعبي قبالة البحر بطنجة، وقربهما صديقان يتضاحكان في ركن وراء النافذة الزجاجية. فأعجبهما الحديث الشيق الفكاهي الجاري بينهما بين الهزل والجد. واتفق المكناسي مع صديقه التطواني على تسجيل الحديث الشيق سرا بالهاتف، ثم يرسله له من بعد بواسطة الواتساب. ابتدأ الحديث بكلام مكتوب قرأه الطنجاوي على صديقه المراكشي، ثم استرسل بالشفوي. وهذا ما ورد على التطواني من صديقه المكناسي عبر الواتساب مسجلا، والذي يبتدئ بصوت الطنجاوي يقرأ ورقته بجوار المراكشي:
في مراكش، نلتهم الطنجية كجزء من البَصْمِ على مرورنا بالمدينة الحمراء، مدينة “الماركة المسجلة” للمغرب السياحي. لكن، في طنجة، نلمس توليفة مختلفة لطيبوبة المغاربة، ما بين تابوهاليت جبالة ومعقول روافة. علما أن الحذر الدائم من الغاشي الأجنبي، ترك استعارة “خاي دالي” صيغة ملطفة حنونة للدبلوماسية العريقة لدى أبناء المدينة البيضاء، عروس الشمال: طنجة. يسمي الشماليون البرتقال “اللتشين”. وعندما تسألهم لماذا لا يفضلون استعمال كلمة البرتقال؟ يردون كونهم يسمون الفاكهة ببلدها الأصلي الصين (la Chine) عوض الترويج فقط للبلد الوسيط التاجر البرتغال (=البرتقال).
هذا الكلام بطنجة، ذات يوم، كان طنجاوي يقرأ زابوره ليسمعه صديقه المراكشي. سأل المراكشي الطنجاوي وهما يقتسمان تدخين السبسي: وما علاقة البرتقال بالبرتغال؟ واستطرد: واطرني ما كاين مزح مع الكيف. الكيف لعب برأسك…انت ادروكا ولليتي بحال المرحوم القذافي للي قاللك نعاماس كلمة البرجوازي أصلها البرج العاجي…من قبل اسمعنا ليك واسمحنا ليك ودوزناها..أخويا يصدق عليك القول: إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا..فرد الطنجاوي: تماما وسنعرف إذاك من هو الفاسق صاحب النبأ من سبأ…لو قرأت، يا هاد الكُعْبِي، كتاب “الاستقصا” لصاحبه أحمد خالد الناصري، لأعطاك الجواب بالمكتوب وليس بالشفوي مثل ما تسمع مني. فاستدار المراكشي جهة الطنجاوي دورة شيطانية جاحظ العينين يشاكس: هاداك راه العلاّمة الناصري السلاوي مشي السوداني. إخواننا في السودان هم الذين يقلبون القاف غاءً.
لعب الكيف هذه المرة برأس المراكشي فاستملح التقصيرة ورغب في نصب شباك”التقشاب” حول عنق الطنجاوي، لكن الطنجاوي مكيّف وقشابته واسعة أصلا، يدخن السبسي… بجواره في نفس المقهى الشعبي وينقل إلى فمه كأس شاي منعنع، ….أخذ المراكشي يلوِّحُ بمعاني ساخرة للطنجاوي، وإن بلغة المودة واستعارة الهُمَزَةِ اللُّمَزَةِ. إذ، أخذ المراكشي يصف مغاربة طنجة بالليونة القريبة من الأنوثة ثم يردد كلمات الدارجة الطنجاوية مازجا ما بين الملاطفة والمقارعة، من خلال نكت بمضامين الجنس والجاسوسية التي تشتهر بها مدينة طنجة.
ردّ عليه الطنجاوي كون المدينة تفضلت على المراكشيين بتسمية أحسن ما لديهم من الطبخ اللذيذ: الطنجية. وتفضلت على العالم بأحسن أنواع الفاكهة وهو صنف من البرتقال حلو ودون عظم، يعرفه الفرنسيون ويجهله المغاربة (tangerine) يضيفونه الى النوع الفرنسي (clémentine) وإلى النوع الصيني الأصلي (mandarine)، ثم أضاف، أن أشهر شعراء مراكش، عندما افتقدوا الأكلة الطنجاوية تأوهوا وصاغوا بحسرة انقراض أيام الطنجية الحقيقية وأعطوا لها اسما أدبيا جديدا. فسأله المراكشي عمّ يكون المصطلح الأدبي الجديد معترضا كونه لا يعرف عن الشعراء المراكشيين سوى أنهم أهدوا للمغاربة جميعا “قمرهم الأحمر”، مشيرا الى الشاعر الكبير عبد الرفيع الجوهري. فرد عليه الطنجاوي. مصطلح النوستالجيا. فاستعجب المراكشي كيف لطنجة بهذا المصطلح الغربي المترجم الى العربية الفصحى؟ لكن السبسي الذي لعب برأس الطنجاوي وفّر له الجواب سريعا. النوسطالجيا هاديك أخاي ديالي: نص طنجية. فعندما أهملت مطاعم مراكش إتقان طبق طنجة الأصيل بتوابله وإيدامه ورماد الفران الساخن، لم يبق من الطنجية سوى نصفها. فالنوسطالجيا صيغة متحورة (ههههه) لأسفٍ أدبٍّي شاعريٍ على زوال زمن الطنجية الحقيقي. انقرضت الطنجية فعوضتها مشاعر النوستالجيا (= “نُصْ طنجية” المتبقي دون جودة). فعبس المراكشي وتولّى إلى حال سبيله تاركا الطنجاوي وحده رفقة السبسي وكأس الشاي.
خرج المراكشي، وهو يتكلم في الهاتف، ثم ما لبث أن عاد وهو يبتسم، وخاطب الطنجاوي: دابا نيت دوّْرْ ليَّ خويا وحكيت ليه هاد الخرافة نتاعتك، ووصّاني نبلغك السلام السوداني الحار، وفادني بواحد الحكمة مكمولة: قال لي: للي تكرموا علينا بالطنجية، راهوم تكرمو علينا بجاحة ثانية. سأله الطنجاوي: وما هي؟ ضحك المراكشي حد شدقيه وقال: الطنز. يعني الكذوب. بحال داك الشي ديال البرتقال والبرتغال.
أقسم الطنجاوي – حسب كلامه المسجل في الواتساب- على ألا يضيع وقته في كتاب أي معلومة مفيدة ليسمعها المراكشي. وردّ المراكشي كلاما معاندا واعدا الطنجاوي لكتابة ما هو أفيد من “طنجرين” و”اللتشين”. وعده أن يرسل إليه ما قرأه حول رواية “جاسوسة طنجة” وحكاية “جان بولز” مع “الشريفة” الجبلية.
أما الطنجاوي فردّ عليه بصوت يوحي بالجدّية والمعقول في الاهتمامات، وأخرج ورقة من جيبه، وأخذ يقرأ منحني الرأس:
الكاتب الفرنسي ألف كتابين سنة 1900، وهو يستقبل القرن 20، كتاب “التوازن الافريقي في القرن العشرين”، وكتاب “مائة سنة من الصراع الفرنسي البريطاني”. وفي مقدمة “التوازن الافريقي” استهلّ كلامه بتأفف طيوفيل غوتيي (قرينا النص نتاعو في القسم) حول تأثر كل مناطق العالم بنمط عيش الأوربيين، واعتبر ذلك مُخِلاّ بالحضارة الإنسانية ومُفْقِرًا لها وليس مفيدا لرفاه الشعوب في مختلف القارات المستعمرة.
من احتكاك الأوربيين بنا داخل مجتمعنا، نلمس هذا التناقض لدى الأوربيين وهم يعرضون خلاصاتهم من المجتمع المغربي خلال القرون الخمسة الأخيرة. فمنهم من رأى عظمة المغرب والمغاربة، ولو كان أسيرا أو جاء سفيرا. ومنهم من رأى فينا مجرد وحوش منعزلة عن مظاهر التقدم التي تنتشر في العالم بسبب/فضل الغزو الأوربي.
عندما قدمتُ مثال الكلب في وصف الصليب من طرف مصلح مسيحي، وكذا من طرف مُنَظّر استعماري يستهزئ ببعض مناطقنا، فلكي نستخلص من الأوربيين أنفسهم كيف كانوا ينظر الحزب الاستعماري الأوربي إلى الإنسان الآخر وإلى أقدم صديق للإنسان (الكلب). رغم انبهارنا نحن بالتنوير الأوربي وقيمه بصدد حقوق الإنسان وكرامة الإنسان. إذ، لم تنمحِ نظرة العنصرية والاستعلاء والمركزية الاستعمارية لدى اليمين الأوربي المتطرف الذي لا يجد فائدة من الحضارة الغربية إلا عبر الحروب والنهب والعجرفة.
ومع ذلك، لا يمكننا مجاراة الحلف الاستعماري في نظرته المتخلفة العنصرية. بل ننظر بإيجابية إلى الحضارة الغربية، لأن ثوراتهم أفرزت، حقيقة، شعوبا تواقة إلى تحرير الإنسانية جمعاء من التخلف ومن الحرب ومن الظلم. فمن بينهم كان مناصروا قضايا الحرية والكرامة والعدالة للجميع.
اليوم، نحكي توصيفا لمدينة من أزهى المدن المغربية، طنجة عروس الشمال، كونها “مدينة الكلاب” من طرف أوربي أقام بها. ولكن في توصيفه لها تركيب متناقض. فهو يحيل على المغاربة كونهم هم من اعتبر طنجة وقد تحولت الى “مدينة الكلاب” منذ كثر بها الأوربيون.
لما رفع رأسه وجد نفسه وحيدا. فأمسك الهاتف وقال يخاطب المراكشي بنرفزة واضحة: أما ديك جاسوسة طنجة؟ لو كنتي راجل….أنا نعطيها لك مترجمة للعربية ترجما واحد صاحبي وواحد السيدة سميتا الشريفة الدحروش. صاحبي اسمو عبد اللطيف البازي..مللي تجي نعرفك عليه….كيعرف بزاف فالروايات والسينما….انتينا بركة عليك الطنجية والطنز…
أحمد الخمسي