ثقافة و فن

نزاعات السبق حول الزليج المغربي-الجزائري: تفكيك الخطاب القومي وإعادة التفكير في التراث المشترك -ذ: حسن تزوضى

       ينبثق التراث الثقافي للشعوب  في أشكال مادية وأخرى غير مادية كما  يتشكل هذا الثرات عبر محطات زمنية متواصلة ومنقطعة، وفي سياق حضارات متصلة وقد تكون منفصلة تتفاعل فيها عوامل وظروف لتفرز اشكالا ثقافية متنوعة ومتعددة، فالثقافة بطبيعتها نسبية ومتحولة، غير أن الثقافة رغم طبيعتها الديناميكية والنسبية، إلا أنها يمكن أن  تخضع لعمليات التوظيف وإعادة التعريف بما يتماشى مع تطورات الدولة القومية وأهدافها، مما يؤدّي إلى نزاعات حول الأسبقيةفي امتلاك بعض الموروثات، وفي هذا السياق  يمثّل النزاع المغربي-الجزائري حول الزليج نموذجًا لهذه الظاهرة، حيث تحوّل فن زخرفي إلى موضع خلاف هوياتي بين دولتين تجمعهما خلفية تاريخية مشتركة.

من منظور الأنثروبولوجيا الثقافية والتاريخية  تثير هذه النزاعات إشكاليات جوهرية حول طبيعة التراث وعلاقته بالهوية، وكذلك التوظيف  السياسي والقومي  لهذا الثرات ،هذا التوظيف السياسي والايديولوجي عادة ما يقفز على كل المحددات  العلمية والتاريخية المشكلة والمفسرة للظاهرة موضوع الجدل باعتبارها ظاهرة ثقافية قابلة للفهم والتفسير الذي يغنينا من كل هذه النزاعات والسجالات الغير علمية وربما الغير اخلاقية .فكيف يمكن فهم هذا النزاع المغربي الجزائري حول الزليج؟ وكيف يمكن لهذا  التوظيف السياسي والايديولوجي أن يخرج الظاهرة الثقافية من  سياقاتها الثقافية العلمية؟  فكيف يمكن فهم هذه الصراعات في ضوء البحوث الأنثروبولوجية والتاريخية؟ وما الذي تكشفه عن آليات إنتاج الرموز الثقافية في ظل التوترات السياسية؟

        يؤكّد الأنثروبولوجي كليفورد غيرتز أن  الثقافة ليست مجرد مجموعة من الممارسات والأدوات والمنتجات التي ابدعها الإنسان، بل هي  نظام من المعاني التي تُبنى داخل الجماعات البشرية عبر الزمن، بهذا المعنى لا يمكن اختزال الزليج في كونه ملكيةلدولة معينة، بل هو نتاج لسيرورة طويلة من التراكمات الحضارية، تمتد من شمال إفريقيا إلى الأندلس والمشرق، فإذا نظرنا الى تقنية الزليج نجد أنها تطورت عبر مراحل متعددة، حيث تأثرت بالعمارة الرومانية القديمة، قبل أن تتخذ طابعها الإسلامي خلال العصور الوسطى، ثم تبلورت كفن متميّز داخل الحواضر المغاربية الكبرى مثل فاس وتلمسان.

يفرض فهم الزليج كمنتوج ثقافي تاريخي ضرورة تفكيك الخطاب القومي الذي يسعى إلى اختصاره في نطاق حدود سياسية حديثة، يشير المؤرخ إريك هوبزباوم إلى أن العديد من الرموز التراثية التي تُقدَّم اليوم كجزء من الهوية القومية ليست سوى اختراعات حديثة، تم تكييفها مع متطلبات الدولة-الأمة في القرنين التاسع عشر والعشرين. في هذا السياق، تُوظِّف الدول المغاربية الزليج لإعادة إنتاج هوية ثقافية متخيَّلة، رغم أن هذا الفن نشأ في سياقات ما قبل وطنية، أي ضمن مجالات  حضارية متعدّدة الإثنيات واللغات والتقاليد، بدءا من الحضارة الامازيغية والرومانية، مرورا  بالحضارة الإسلامية وصولا إلى الدولة القومية مابعد الاستعمار.

تُظهر النزاعات حول الزليج أن التراث لا يُنظر إليه باعتباره مجرّد ممارسة فنية، بل كجزء من رأس المال الرمزي، وفقًا لمفهوم بيير بورديو حيث تصبح بعض الرموز الثقافية أدوات لإنتاج السلطة وإعادة توزيعها، فالدول تسعى دائما إلى احتكار المعاني المرتبطة بها لتعزيز شرعيتها الوطنية، وفي هذا الإطار يُمكن فهم النزاع المغربي-الجزائري حول الزليج  كرغبة لدى كل طرف على إثبات السبق التاريخي والاحقية في هذه الممارسة الثقافية ، فكل قطب من هذين القطبين يحاول  تقديم نفسه كحامي وحيد لهذا الإرث، ليس فقط على المستوى الداخلي، بل أيضًا في المحافل الدولية مثل اليونسكو، حيث بات تسجيل التراث في القوائم العالمية شكلاً من أشكال الاعتراف السياسي.

يتجلّى هذا التنافس أيضًا في الاقتصاد الثقافي، إذ تمثّل الصناعات الحرفية المرتبطة بالزليج موردًا اقتصاديًا مهمًا يعزز السياحة والصناعات الإبداعية في كلا البلدين، تخلق هذه الأهمية الاقتصادية بُعدًا إضافيًا للصراع، حيث لم يعد الزليج مجرّد تقليد معماري، بل صار جزءًا من الاستراتيجيات الوطنية لتنمية التراث وتسويقه عالميًا، ُيعيد هذا الواقع إنتاج آليات السوق الثقافية التي تجعل التراث، كما يرى أرنو وهوركهايم سلعة تتنقّل داخل الاقتصاد العالمي، ما يزيد من حدة التنافس على من يملك حق تمثيله وترويجه.

تسعى الخطابات الوطنية إلى تقديم الزليج كفن أصيل، لكن هذه الأصالة تظل إشكالية من منظور أنثروبولوجيا الثقافة، حيث تُظهر الدراسات أن أي ممارسة ثقافية هي في جوهرها نتاج تهجين مستمر، يُعيد هذا الجدل إنتاج ثنائية الأصل/والنسخة ( التأثير)، حيث يتم تقديم بعض الفنون باعتبارنقية” أصيلة، بينما تُوصَف تأثيراتها التاريخية بأنها وافدة” نسخة،  غير أن جاك دريدا  يرى في سياق حديثة عن الهوية  أن كل هوية تُبنى على الاختلاف وليس على النقاء، أي أن الثقافات تتشكّل من خلال تفاعلها مع غيرها وليس عبر انفصالها، بهذا المعنى يصبح الزليج مثالًا واضحًا لكيفية نشوء الهوية من خلال الامتزاج التاريخي، وليس من خلال الحدود القومية التي تم ترسيمها لاحقًا.

تؤدّي محاولة احتكار الزليج إلى خلق خطاب إقصائي ينكر مساهمات الجماعات المختلفة التي كان لها دور تاريخي كبير في تطوير هذه الممارسة الثقافية ، فسرديات الأصل القومي للزليج تنفي دور الرومان والامازيغ ،وكذلك  دور الأندلسيين الذين جلبوا تقنيات جديدة بعد سقوط غرناطة، أو الحرفيين اليهود الذين لعبوا دورًا أساسيًا في تطوير صناعة الفسيفساء خلال فترات مختلفة، يعكس هذا التجاهل نزعة قومية تسعى إلى تنقيةالتراث من كل عناصره المركّبة، رغم أن الأنثروبولوجيا تؤكّد أن الثقافة لا تنشأ من العزلة، بل من التفاعل المستمر بين المجتمعات.

 يُشكّل النزاع حول الزليج جزءًا من إشكالية أوسع تتعلق بإدارة التراث الثقافي المشترك في ظل التوترات القومية، تقترح منظمة اليونسكو مفهوم التراث العابر للحدودكإطار بديل يسمح بالاعتراف بالطابع المشترك لبعض الموروثات، بدل تحويلها إلى مواضيع خلافية، يمكن أن يشكّل هذا النموذج حلًّا عمليًا للنزاعات حول الزليج، حيث يتم الاعتراف به كجزء من التراث المغاربي المشترك، ما يُتيح تعاونًا ثقافيًا في مجال البحث والتوثيق والصون.

لا يعني هذا إلغاء الفروقات المحلية، بل الاعتراف بأن الثقافة لا تُختزل في أطر قومية ضيقة، يمكن للدولتين تبنّي نموذج شراكة في تسجيل الزليج ضمن قوائم اليونسكو، كما حدث في حالات أخرى مثل الموسيقى الكلاسيكية الفارسية التي تم الاعتراف بها كتراث مشترك بين إيران وأذربيجان، يُمكن أيضًا استثمار هذا الإرث لتعزيز الحوار بدل الصراع، عبر مشاريع بحثية مشتركة أو معارض دولية تُبرز تاريخه المشترك.

          هكذا تعكس نزاعات السبق حول الزليج إشكاليات أوسع تتعلق بعلاقة الدولة بالتراث، حيث تتحوّل الموروثات الثقافية إلى أدوات لإنتاج الهوية الوطنية وتعزيز السلطة السياسية، تكشف هذه النزاعات عن كيفية توظيف الثقافة في صراعات رمزية واقتصادية، ما يؤدي إلى اختزال التعقيد التاريخي في سرديات قومية ضيقة، من منظور علمي  أنثروبولوجي الزليج ثرات ثقافي لايمكن فهمه  خارج ديناميات التفاعل والتراكم، وأن أي محاولة لاختزاله في نطاق سياسي ضيق تتجاهل طبيعة الثقافة بوصفها فضاءً مشتركً،. تفرض هذه الإشكالية الحاجة إلى إعادة التفكير في طرق إدارة التراث ليس كملكية حصرية، بل كجسر للتواصل بين الشعوب، يُتيح فهمًا أكثر شمولية لهويتنا التاريخية والثقافية، فعوض أن تكون الثقافة أداة لإذكاء الصراعات والنزاعات ،الأخرى بها أن تكون أداة لتقريب الشعوب وخلق أواصر التواصل والتفاعل بينها.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى