الاشتراكية بين الطوباوية والوهم-الرطابي عبد الكريم

ظلت العدالة الاجتماعية قضية إنسانية تقض مضجع الفكر البشري على مر العصور . و جاءت الأديان لتقترح حلولا وفق شروط عصرها .كما ساهم الفلاسفة منذ العصر الإغريقي في وضع تصورات وحلول لهذه المعضلة الإنسانية ( جمهورية أفلاطون ). ولم يتخلف ركب الأدباء والفنانين عن معانقة هذه القضية الإنسانية العادلة في جميع المجتمعات.
وقد كانت الثورة الصناعية التي عرفتها أوربا في القرن 19شاهدة على نمو هذا الحيف الاجتماعي حيث برزت طبقتان اجتماعيتان :
1- البورجوازية وهي رائدة التصنيع في المجتمعات الأوربية بعدما قضت على الطبقة الإقطاعية .
2- طبقة العمال التي تبيع قوة عضلاتها لأصحاب المصانع (البروليتاريا فيما بعد).
فالتطور الصناعي كان ضروريا للمجتمعات الأوربية لحل مجموعة من المشاكل بدءا من الطعام مرورا بوسائل النقل البرية والبحرية لتحسين مستويات العيش .ولتحقيق هذه النهضة الصناعية الشاملة استغلت المصانع المناجم والمعادن (الفحم الحجري ،الحديد ، القطن لصناعة النسيج … ) لقد كانت المصانع تتمدد جغرافيا وتاريخيا في الدول الأوربية الصناعية ،وكانت تحتاج لمزيد من اليد العاملة (انجلترا،فرنسا…)
وكان لهذا التوسع آثار سلبية على فئة العمال .فقد لجأ أرباب المصانع إلى بناء (مراقد جماعية) تأوي اليد العاملة المهاجرة من القرى حتى تبقى قريبة من أماكن استغلالها.كانت ظروف الاشتغال وظروف المبيت قاسية جدا وغير إنسانية. لقد كان العمال يستيقظون منذ الفجر للعمل ولا يلتحقون بملاجئهم إلا بعد حلول الظلام .لم يكن العمال يتمتعون بأي حق من الحقوق المتعارف عليها الآن .( حق التطبيب،العطلة الأسبوعية، تحديد أوقات العمل.)
في هذا السباق المحموم احتلت أوربا بلدان إفريقيا وآسيا بحثا عن المواد الخام وبحثا عن أسواق جديدة لتصريف فائض صناعاتها .وأمام نمو المصانع وانتشارها كان لا بد من جلب يد عاملة جديدة للحفاظ على الدورة الإنتاجية وتحقيق تراكم تاريخي للرأسمال .
في هذه الظروف التاريخية الموسومة بارتفاع وتيرة التصنيع وارتفاع مظاهر استغلال الإنسان لأخيه الإنسان ظهرت الاشتراكية الطوباوية على يد فلاسفة ومفكرين نذكر منهم (سان سيمون ) و (جوزيف برودون).وكان المبدأ العام لهذه الاشتراكية يتأسس على ضرورة إنصاف فئة العمال بل وإشراكها في تدبير شؤون المصانع واقتسام الثروات معها … هذه الاشتراكية هاجمها( كارل ماركس ) ورفيقه (انجلز)واعتبراها اشتراكية طوباوية لأنها لم تقدم حلولا عملية وجذرية لإنصاف الطبقة العاملة.
بما أن لكل فلسفة حقلها المعرفي وجهازها المفاهيمي فإن فلسفة ماركس التي قامت على أنقاض المثالية (فلسفة هيغل) أصبحت تعتمد على نسق فلسفي جديد يتأسس على مصطلحات مستوحاة من الدراسات السوسيو- اقتصادية التي أنجزها ماركس وأنجلز .هكذا قسم ماركس ورفيقه أنجلز المجتمع (الأوربي) إلى طبقتين متصارعتين – طبقة البورجوازية. – وطبقة البروليتاريا. سينتهي هذا الصراع في نظره بانتصار العمال وإقامة (ديكتاتورية البروليتاريا) على أنقاض المجتمع الرأسمالي البائد فتتحقق الاشتراكية ليتم الانتقال إلى بناء المجتمع الشيوعي لاحقا .
لقد كان لكتاب (رأس المال ) لماركس أهمية كبرى في دراسة نمط الاقتصاد الرأسمالي وآليات نموه وما خلفه من آثار سلبية على الطبقة العاملة .فهذه الفئة هي التي تخلق الثروة المادية ولكنها لا تحصد من عائداتها سوى البؤس والفقر والاستلاب .
إن ما يحسب لماركس أنه لم يكن ليتدخل في التنظيمات العمالية التي تبنت أطروحة الفكر الاشتراكي كما صاغها ماركس وأنجلز في كتابهما (البيان الشيوعي). لقد حضر ماركس مؤتمر الأممية الاشتراكية المنعقد بلندن بدعوة من العمال سنة 1864 فظل صامتا ولم يتدخل في النقاشات الدائرة بين ممثلي العمال وذلك احتراما لمقولته التاريخية (يا عمال العالم اتحدوا)..
وعندما انتصرت (كومونة باريس)في أبريل سنة 1871 بعدما احتل العمال مصانع باريس صاح انجلز قائلا (انظروا … إنها ديكتاتورية البروليتاريا) .
لقد ظلت الأيديولوجية الاشتراكية(العلمية ؟ وأنا أتساءل عن جانبها العلمي أين يتجلى ؟؟) نبراسا عقائديا لجميع الأحزاب التي تبنت الاشتراكية (العلمية) أوائل القرن 20. فهي تنبذ الاستغلال كما تنبذ الاستعمار .(موقف ماركس من احتلال شمال إفريقيا لم يكن ينسجم مع أطروحاته الفلسفية التحررية .لقد كان يعتبر شعوب إفريقيا متوحشة ،وأن أوربا ستنقل هذه الشعوب من مرحلة التوحش إلى مرحلة التحضر.)
لقد أثار عبد الله ساعف في كتابه (كتابات ماركسية حول المغرب ) مسألة الاستعمار الأوربي للبلدان الإفريقية حيث رأى فيها دعم ماركس للاستعمار باعتبار بلدان شمال إفريقيا متوحشة وتلزمها دفعة للتقدم .
وكرد فعل على علم الاجتماع والأنتربولوجيا الاستعمارية وجه نيتشه نقدا لاذعا لهما في كتابه (قبل المسيح ).يقول ( إن المسيحية حرمتنا من حصاد الثقافة القديمة ،وفيما بعد حرمتنا من الثقافة الإسلامية .فالثقافة الأندلسية باسبانيا – وهي الأقرب إلينا -هي أكبر معبر عن الفكر … لقد داستها الأقدام ..لماذا؟ .. لأن الشرق كان غنيا وأريد تحويله إلى غنائم ) .Maghreb pluriel – Abdelkebir Khatibi PP19-20
الثورة الروسية
كان حزب لينين (البلشفي ) في روسيا القيصرية ينسج خيوطه للاستيلاء على السلطة .وكانت الحرب العالمية الأولى عاملا ساهم في انتصار الشيوعية بقيادة لينين فتم القضاء على الإقطاع وتمت إعادة هيكلة القطاع الفلاحي على ضوء النظرية الاشتراكية .لقد تم إنشاء الكولخوزات التي اشتغل تحت لوائها العمال الفلاحيون … لقد كانت الدولة تجمع المحاصيل الزراعية وتعيد توزيعها على باقي الأقاليم .من جهة أخرى تبنت الدولة سياسة بناء صناعة قوية لتلبية حاجياتها المتزايدة .فتأسست مصانع الصلب الكبرى لإنتاج الآلات الفلاحية،كما اعتمدت على صناعة محلية للمركبات (السيارات والشاحنات).
فالأوراش الكبرى التي واصل (ستالين) بناءها لم تكن لتحيد عن هذا المشروع الاقتصادي الجديد وهو تحقيق الاستقلال الاقتصادي بما يضمن سيادة الدولة وهيبتها دوليا.فلم تكد الحرب العالمية 2 تبدأ حتى كانت روسيا دولة قوية من الناحية العسكرية كذلك .فقد استطاعت أن تخلق صناعة حربية متنوعة (برية وبحرية وجوية).
لقد انعكس هذا التوجه الاقتصادي الجيد (الاشتراكي) بشكل ايجابي على الفئات العريضة من العمال والفلاحين .(فهم سواعد الثورة ووقودها) ،إذ ضمنت الدولة الجديدة تمدرس جميع الأطفال مجانا ،كما قدمت الرعاية الصحية لجميع المواطنين .. المسيرة الكبرى و ثورة الصين الشعبية
لا تختلف الصين في مسارها الاشتراكي كثيرا عن روسيا .فقد كانت حليفتها وسندها الخلفي الذي يقيها من جهة اليابان وفيتنام وكمبوديا.انتصرت الثورة الصينية على العدو الطبقي وتم الإعلان عن ميلاد (جمهورية الصين الشعبية ) سنة 1949. كانت الصين في حاجة ماسة إلى مواصلة الدعم الروسي .إلا أن هذا الدعم لم يكن ليرقى إلى طموحات الصين الجديدة . وأمام تنامي الخلافات (الأيديولوجية ) بين روسيا والصين قررت الأخيرة أن تنعزل عن العالم .
مشروع مارشال والمنعطف التاريخي
كان النظام السياسي والاقتصادي في الغرب يدرك أن الحرب العالمية 2 ستكون مفصلية على مستوى الطموحات الاقتصادية داخل القارة العجوز. .فإما أن تدعم أمريكا حلفاءها الغربيين (الرأسماليين ) أو تسقط في يد النظام الشيوعي كما وقع لأوربا الشرقية.
فكان لا بد لأمريكا أن تحسم في اختياراتها الأيديولوجية والاقتصادية وأن لا توقف دعمها المادي واللوجيستيكي لحلفائها الغربيين بعد نهاية الحرب ع2 .فجاء مشروع ( مارشال ) بثقله الاقتصادي والسياسي ليعيد بناء أوربا لتقف سدا منيعا أمام تمدد الزحف الشيوعي.
إن التركيبة السياسية لهذه الجمهوريات (الاشتراكية) يقودها الحزب الشيوعي الذي سيطر على جميع مفاصل الدولة . هو الذي يقرر الخط الإيديولوجي للبلاد ويقرر التوجهات العامة للدولة. يليه رئيس الدولة الذي يختاره الحزب، ثم الحكومة الاشتراكية بوزرائها وهي التي تشرف على تنفيذ المخططات التي يمليها الحزب الشيوعي الحاكم .في ظل هذه التراتبية المؤسساتية تصبح الثقافة بجميع تجلياتها (آداب وفنون ومسرح وسينما )خاضعة لتوجهات الحزب ،وبالتالي تكون وسائل الإعلام (السمعية والبصرية والمكتوبة) مفتوحة في وجه من تبث ولاؤه للنظام .وهذا هو المعيار الوحيد ليحظى بجواز المرور.وكل إبداع تعارض مع التوجهات الرسمية لا يرى النور لقد استنفد النظام الاشتراكي في الاتحاد السوفياتي والصين وفي أوربا الشرقية طاقاته الخلاقة وصار غير قادر على مجاراة إيقاع التحولات الاجتماعية والاقتصادية وخصوصا الصناعية .فامتلاك الدولة لوسائل الإنتاج ولد بيروقراطية متكلسة جعلتها أنظمة توتاليتارية. أمام غياب المواد الغذائية من الأسواق التجارية صار توزيعها على شكل طوابير.وكانت حصص الأسر منها لا تتعدى عدد أفراد الأسرة فبدأت المحسوبية والزبونية تتغلغل داخل هذه المجتمعات (الاشتراكية ) .
من هنا صار وهج الثورة الاشتراكية يتضاءل عند الأجيال اللاحقة. فهي لم تعش تجربة الثورة ،كما أن هذه الأنظمة لم تقدم تحفيزات للعمال والفلاحين . مع رياح التغيير والأفكار التي تخترق حدود هذا المعسكر بدأ صوت الحرية ينادي جوهر الإنسان ليكسر القلاع الصدئة التي شاخت ولم تجدد هياكلها ونظرياتها. ولا يمكن إسكات هذا الصوت . فالإنسان لا يحيى بالطعام وحده.ألا توجد ثقافة أخرى خارج المؤسسات الرسمية؟ ما الجدوى من الثورة إذا كممت الأفواه ولم تطلق العنان للفكر الآخر ليعبر بكل حرية عن مشاعر الإنسان؟
صرخات التمرد على الأنساق الأيديولوجية انطلقت مع انتفاضة المجر ( ربيع براغ سنة 1956) تلاها ميلاد نقابة (التضامن ) المستقلة في بولونيا سنة 1981 ،ثم انتفاضة الطلاب في ساحة (تيانان مينه ) في العاصمة بكين سنة 1994 .
في تسعينيات القرن 20 انهارت المنظومة الاقتصادية (الاشتراكية)في الاتحاد السوفياتي وتفككت مجموعة (الكوميكوم) وانتقل الجميع إلى النظام الرأسمالي بما فيه روسيا الاتحادية . أما الصين الشعبية فقد كانت عينها على المزاوجة بين رأسمالية الدولة والرأسمال الخاص ولكن بصيغة محتشمة . إنها تعيش انتقالا بطيئا نحو نظام اقتصاد السوق . وانخراطها في منظمة التجارة العالمية يؤكد هذه الرغبة البراغماتية .
في الدول الغربية واصلت النقابات والأحزاب الديموقراطية والاجتماعية والاشتراكية مشاريعها الإصلاحية ذات البعد الاجتماعي على الخصوص عبر التدافع السلمي للوصول إلى السلطة .لقد أصبحت الطبقة العاملة بعد الحرب العالمية 2 تتمتع بمجموعة من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية .وهكذا أصبح العامل في هذه البلدان الرأسمالية يستفيد من التغطية الصحية ومن العطل الأسبوعية والسنوية ، كما تحسن المستوى المعيشي لهذه الفئة ( تحفيزات مالية ).فأصبح العمال يمتلكون منازل شخصية ويتوفرون على وسائل العيش الضرورية (سيارة تلفاز ثلاجة آلة الغسيل…) ويقضون إجازاتهم السنوية خارج بلدانهم . ففي الدول الغربية لا توجد طوابير لاستلام حصص الحليب أو اللحوم ( المواد الغذائية ) كما كان حاصلا في المعسكر الاشتراكي .
خلاصة لقد ظهرت الاشتراكية طوباوية وانتهت رأسمالية .
09 / 11 / 2022