هيغل: الفن والموسيقى-المصطفى عبدون

حدد إيمانويل كانط، الفن بأنه ليس إظهار الشيء الجميل، بل إنه طريقه جمالية في إظهار الشيء. والعمل الفني بالنسبة لكانط هو غائية بدون غاية، فغايته هي الانسجام الذاتي، وليس له أي هدف خارجي يحققه خارج هذا الإطار، ويجب ألا نُقَوِّمَ العمل الفني تبعا لهدفه الأخلاقي أو الفلسفي. والفنان ليس رسولا أو مبشرا أو محرضا، وبأن قيمة عمله الفني لا تستمد من الهدف الذي يعمل له، بل من قيمته الجمالية الذاتية.(1)
ومن هنا جاءت نظريه “الفن للفن” التي تقول أن الفن يحمل معناه وقيمته بداخله كالدين والأخلاق، وليس بحاجه إلى تحميله أي دور أو رسالة، وإلا فقد طابعه وأصبح كل شيء ما عدا كونه فنا. وقد نشأ تيار آخر يقول إن للفن دورا وهدفا وغاية، وقد بدا هذا التيار في القرن التاسع عشر مع هيغل الذي يرى أن الفن ما هو إلا حركه جدلية وتعبير أصلي ونهائي عن “الفكرة المطلقة” والعمل الفني ما هو إلا مرحلة في مسيرتها لتجسد الفكرة المطلقة.(2)
- ماهية الفن عند هيغل
إنْ كان يلزمنا الانطلاق دوما من التجربة الفكرية الحديثة، فإنّ ذلك سيفرض علينا اختيار نموذجا حديثا كان له الأثر البالغ في مسار الفكر الفلسفي البشري، وهو هيغل Hegel، عبر محاولته جعل الفن علما له قواعد وأسس ومناهج، ومستقل بمفاهيمه وفرضياته. لقد نظر هيغل إلى الفن بوصفه تصورا يجمع بين خصوصية الجميلle Beau، وبين طابعه الفني الملازم له. فالجميل هو بالضرورة عمل فني. يمثل الفن في نظر هيغل، إلى جانب الدين والفلسفة، واحد من أسمى ثلاثة الأشكال التي يتجلى لها الروح المطلق. فبالفن يرقى الإنسان حدسيا إلى مستوى الحضور الإلهي، ويعيد اكتشاف البعد المثالي للواقع، ويعطي امتداد لامتناهيا لوجوده المتناهي.
استعرض آراءه في فلسفة الفن في موسوعة علم الجمال، أتت أولاً على شكل محاضرات ألقاها على طلابه في جامعة برلين، ثم جمعها تلميذه “هوتو” ليصدرها في مجلد مستقل في العام 1832، أي بعد وفاة هيغل بعام… وهي محاضرات كانت جديدة الموضوع وأسلوب التنسيق في زمنها، وتناول فيها المفكر الكبير، بعد ثلاث مقدمات هي “مدخل إلى علم الجمال” و “فكرة الجمال” (في قسمين)، الفن الرمزي والفن الكلاسيكي والفن الرومانسي، قبل أن يتطرق إلى فن العمارة وفن الرسم وفن النحت وفن الموسيقى، خاتماً بجزأين عن “فن الشعر”.(3)
يُعدُّ الفيلسوف الألماني هيغل(1770م–1831م) أحد أهم مؤسسي حركة الفكر المثالي في ألمانيا وصاحب المنظومة الجمالية الواسعة المعروفة بالإستطيقا، وما الفن سوى خطوة سابقة في طريق العقل نحو الحقيقة. أما الجمال فلا يتحقق، في درجاته القصوى، إلا في الجمال الفنّي، لأنه فكرة الإنسان التي تُعبّر عن الوحدة المباشرة بين الموضوع والذات. وهذه الفكرة تنبع من الرّوح البشريّة. الجمال الفني يُمثِّل تجليات الحياة في كل حريتها، كما أنه يجعل الخارج موافقا للروح، وهنا تتحرر الحقيقة من محيطها الزّماني، ومن تجوالها خلال الأشياء المتناهية.
من خلال ما تقدّم يحاول هيغل إظهار أن الجمال الفني يُعبِّر عن فكرة الجمال، وهذا من خلال التوسط أي المثال، وهنا يحاول أن يبيّن فكرة الجمال عنده من خلال ثلاث نقاط رئيسة هي: المثل الأعلى بما هو كذلك، والكيفيّة التي يتحقق بها في الأعمال الفنّية، أو بمعنى آخر العمل الفنّي بوصفه تحققاً للمثال، ليصل إلى تحديد الذّاتيّة الخلاّقة عند المبدع أيّ الفنّان للجمال الفني.(4) إن الحقيقة “لها وجود ذهني غير حسي. كما أنّها تتحقق في الخارج عن طريق وجود محدّد المعالم عينيّ، وفي حالة تحققها إذا اقترن ظهورها بإدراكها مباشرة من دون أقيسة مجردة تكون حقيقة جمالية”.(5) “إذاً، الجماليّة لا تستهدف الفنّ فقط، بل تتعداه إلى الطبيعة، وإلى جميع كيفيّات الجمال. فالجمال كما يكون في الفنّ يكون في مصدر الفنّ أي في الإنسان والطّبيعة. والجمال معناه: الحسن والبهاء.”(6)
الفن هو تجسيد لفكرة “من حيث أنها موجودة في ذاتها ولذاتها، هي أيضاً الحقّ في ذاته، وهي ما يدخل في عداد الرّوح بصورة عامة، هي الروحي الكوني، الرّوح المطلق، وما الرّوح المطلق إلا الروح من حيث هو كوني، وليس من حيث هو خاص ومتناه. إنه يتحدد على أنه الحق الكوني في حقيقته.”(7) ولكن هذه الفكرة عندما يكون لها تَعيُّنٌ واقعي حسي، تصبح هذه الفكرة في وحدة مع الواقع والمفهوم، إذ إن تحقق هذا المفهوم واقعيّاً هو الفكرة، وبذلك تكون الفكرة هي التَّجسيد الواقعي للمفهوم، وهو الذي يقرّر كل شيء، وبالتالي هو الذي يمثّل الفكرة، وبهذا فالفكرة إذاً: “هي الواقعي بوجه عام ولا شيء غير الواقعي، وما هو واقعي يتجلى بادئ ذي البدء، بصفة هذا وجود خارجي، بصفته واقعاً حسياً، لكن الواقعي الحسي، ما هو بحقيقي ولا بواقعي حقا، إلا بقدر ما يطابق المفهوم”(8) “كل ما هو موجود ليس إذن حقيقياً إلا من حيث أنه فكرة، لأنّ الفكرة وحدها هي التي لها وجود واقعي حقاً، فهذه الظاهرة أو تلك الظاهرة حقيقية، لا لأن لها وجود خارجياً أو داخليا، أو لأنها واقع بوجه عام، وإنّما بقدر ما تكون واقعياً مطابقاً للمفهوم.”(9)
يرى هيغل “أن الجمال نمط معين لتمثيل الحقيقة وإظهارها في طابع حسي.”(10) ويعتبر أن “وجهة نظر الروح المتناهي الذي تكمن حقيقته بالأحرى في الروح المطلق هو الاتحاد بين ذاته وبين الطبيعة، فالطبيعة إذن لا وجود لها بالنسبة إليه إلاّ في الفكرة، بوصفها شيئاً مفترضاً، وبالنظر إلى أنّ الرّوح نشاط يستطيع بفضله أن يميّز نفسه بنفسه، ينجم عن ذلك أن ما يصدر عن الرّوح بفعل التمايز، أعني الطبيعة، يتضمن الفكرة والرّوح في كليتهما”.(11)
يرى هيغل أن الفكرة هي نقطة انطلاق رئيسة لمفهوم الجمال “عندما نقول إذن أن الجمال فكرة، نقصد بذلك أن الجمال والحقيقة شيء واحد. فالجميل لا بد، بالفعل، أن يكون حقيقيا في ذاته.”(12) “لكن لو أمعنّا النظر في مفهوميّ الجمال والحقيقة لوجدنا الفرق والاختلاف بينهما؛ فالحقيقة يكون لها وجود خارجي تقوم بتظهير نفسها وعرض ذاتها للواقع الخارجي، كما قد تظهر ذاتها للوعي، في حين الفكرة هي عكس الحقيقة تكون حقيقية بمقتضى طبيعتها الكليّة والشموليّة المتصوّرة في الفكر وهي بذلك تحوز وجوداً داخلياً ذا طبيعة روحيّة. وعلى هذا فالفكرة لا تكون حقيقيّة ولا جميلة إلا بتظاهر الحسيّ الخارجي، ومعناه أن الفكرة كلّما كانت متجليّة وواضحة في الواقع المحسوس كلما اكتسبت جمالها وحقيقتها، وبهذا فإنّ اتحاد كل من الحقيقة والفكرة يشكلان المفهوم “وذلك أنّ الجميل هو على الدوام المفهوم الذي بدل أن يتناقض مع موضوعيته بمعارضته إياها بتناهٍ مجرد وأحادي الجانب، يتداخل وهذه الموضوعية ويصبح، بفضل هذه الوحدة المحايثة، لامتناهياً في ذاته.”(13)
وبهذا فإن الجمال عند هيغل هو الظاهر العيني للفكرة، إذ لا يحتفظ الحسّيّ والموضوعيّة بأيّ استقلال في الجمال، أي أن الموضوعي هو الحقيقي الفعلي، وبالتالي هو العقلاني، وبذلك يكون الجميل هو الفكرة المفهومة التي تجسِّد الواقع، ولكن هذا الوجود الموضوعي الواقعي لا تكون له قيمة إلا على أنه ظهور للمفهوم “لأنّ الجميل تماماً هو المفهوم… والمفهوم يبث النّفس، يبثّ الوجود الحقيقي الذي يجسده.”(14)
“فالجمال الطّبيعي ليس جميلاً في ذاته ولذاته، وليس موجوداً بسبب ظاهره الجميل، وإنّما هو جميل بالنسبة إلى الآخرين، أي بالنسبة إلينا نحن. أي بالنسبة إلى الوعي المدرك للجمال.”(15) إن نقص جمال الشكل الطبيعي يرجع بشكل مباشر إلى خضوع هذا الأخير إلى جملة من القوانين، التي جعلت منه ناقصاً ومجرداً، يعجز عن تجسيد الصورة الجماليّة على الواقع العيني، إذ “إن الفكرة هي الجمال الكامل في ذاته، بينما الطبيعة من هذا هي جمال ناقص.”(16)، وذلك لأنّ الفكرة هي الجوهري العام في تجسيد مفهوم الجمال الكامل، أي هي وحدة المفهوم وواقعه، بمعنى أن الفكرة يجب أن تتقّدم وتتجه نحو الواقع الخارجي لتحقق جمالها. وعلى هذا فالجمال عند هيغل هو التّجلي المحسوس للفكرة التي هي وحدة المفهوم وواقعه وهي الجوهري والعام.
الفن ليس عنصرا مجردا يظل باقيًا لحاله خلال الأشكال العرضية التي يتخذها، وإنما هو مبدأ حي يتحول، وفي تحولاته يمكن دراسة ماهيته. وتُصور الموسيقى الحركة غير المرتبطة بأشكال جسمانية، كأنها محمولة على أجنحة غير منظورة؛ وتؤلف العالم الحي المنسجم. لَخَّصت كلمات “فريدريك شلنج” الفيلسوف الألماني الشهير أهم خصائص الفلسفة الجمالية في العصر الرومانتيكى – كما بين ذلك “جوليوس بورتنورى” في كتابه: “الفيلسوف وفن الموسيقي.”
إن الفن والدين والفلسفة(17) تمثل مراحل في تطور الروح المطلق، والفن هو أول شكل للتجلي الذاتي أو للتعرف الذاتي في الروح المطلق وهو أقل الأشكال كمالاً، إنه الألق الحسي للروح أو حضوره الحسي، يقول هيغل :” على هذا النحـو يتحدد الجميل بأنه التظاهر الحسي للفكرة”(18). إن الفن يصل الجانب الخارجي والمحسوس والزائل بالفكر الخالص وبكلمة أوضح إنه علاقة بين الطبيعة والإنسان. ولكن هذا الوصل بالذات هو خطوة في طريق تحرير الروح من محتوى التناهي وصورته. الفن يمثل الوجود بوصفه جمالاً وهو كتعبير عن الروح يستمد قيمته وهدفه من أنه يرفع إلى مستوى الوعي لأعمق مصالح الإنسان وأشمل حقائق الروح. ومن هنا اهتمام هيغل بالمحتوى في الفن.
إن الفن من عالم الروح وليس مسامرة أو تزجية لأوقات الفراغ. وانطلاقاً من هذا الفهم ينتقد هيغل النزعة الشكلية عند كانط وأتباعه، هذه النزعة التي تتوقف أمام جمال الشكل بذاته أو روعة الخيال واللعب الفني، ويؤكد بقوة أن المحتوى هو العنصر الحاسم في الفن كما في سائر الفعاليات الإنسانية وهكذا يتضح أن للفن قيمة معرفية فهو شكل من أشكال المعرفة. والبحث عن محتوى الفن يجعلنا نتجاوز دائرة الفن الخالصة إلى مجال الحقيقة. إن الحاجة إلى التعبير الفني تتفق مع طموح الإنسان إلى وعي العالم الداخلي والخارجي كموضوع يكتشف فيه ذاته، أو أناه الخاصة. يقول هيغل إن الفن يطمح إلى تصوير المجال الفكري والإلهي فهو مشغول بالحقيقة، بالروح، وبما هو إلهي.
فالفن من هذه الناحية، ناحية المحتوى، لا يتميز عن الدين والفلسفة، أما إذا نظرنا إلى الشكل والأسلوب الذي يبلغ فيه المطلق مرتبة الوعي الذاتي فإننا بذلك نضع أساس التمييز بين الفن والدين والفلسفة. إن الفن يقوم بتصوير المطلق تصويرا حسيا ومن هنا يتبين لنا أن موضوع الفن ليس الروح الحق، ببساطة، ليس الروح كروح، أو الروح في ذاته ولذاته، بل العرض الحسي للمطلق، والدين هو تعبير رمزي عنه، أما الفلسفة فهي مرحلة أرقى يصل فيها الروح المطلق إلى الوعي الذاتي التام. لقد تعين الفن على هذا النحو كتعبير حسي عن الروح، يلعب دور الوسيط بين الواقع الحسي والفكر الخالص، بين الطبيعة المتناهية وحرية الفكر اللامتناهية، والفن كما يقول هيغل شيء من الماضي وإذا كان النشاط الفكري على العموم يستهدف التوحيد الواعي للذاتي والموضوعي، فالفن كشكل لهذا النشاط يتوخى جعل التلاؤم مع الواقع واعياً.
إن كل عمل يقدم قدرا ما من الجمال هو عمل فني بالضرورة، وحيثما وجَدَ الإنسان في شيء ما يجذبه، ويدفعه إلى التفاعل معه جماليا، فإنه شيء قد توفّرت فيه بعض الخصوصيات الفنية أو جلها. لا يفصل هيغل بين الإمكانية المتاحة للتفلسف حول العمل الفني، وبين ما يحمل في طياته من جمالية؛ ذلك أن ما يدعو الفلسفة في الأصل إلى وضع أسئلتها رهن إشارة الإنتاجات الفنية، لَهُوَ بالأساس ما يفعل الجميل في الإنسان، وما يتركه عليه من الآثار. “إن عملا ما يروم تقديم شيء من الجمال، يكون إذن عملا فنّياّ(19) ، وهو ينسحب على جميع الإنتاجات الأخرى. بالإضافة إلى الطابع الجمالي، المؤدي إلى حالة التفلسف حول العمل الفني، فإنّ ثمة سمة أخرى تميّز الشيء الفني فلسفيا، وهو كونه جليلا(20) Sublime؛ فالجليل إلى جانب الجميل، هما سمتا كل عمل فني من وجهة فلسفة الفن عند هيغل، ثمّ إن ثمة شيئين يحملان العمل إلى مستوى الجمال، وهما: حصول وعي للعقل الحر، ثم الوعي بالعناصر الثانوية المحسوسة الطبيعية التي تجد لها أصلا في هذا العقل أيضا.(21) إنّ أهم ما جاء به التصور الهيغلي هو إخضاع كل مجالات النشاط الإنساني الخاص إلى العقل وسلطته الصارمة. فالفن جزء من إمكانات العقل المطلقEsprit absolu، وبالتالي فهو خاضع للمقولات المنظمة لأنشطة هذا العقل نظريا وعمليا.
- حضور الموسيقى في فلسفة هيغل
يُعرف هيغل الموسيقى على “أنها بوجه عام الفن الذي يُعَبِّرُ عن داخلية الشعور المجردة والروحية”.(22) إنها فن الشعور والحالات النفسية التي يولدها.(23) وصف هيغل الموسيقى بأنها أكثر الفنون إثارة للعواطف، فالذات – في حالة الإحساس أو التفكير أو التصور – تقف في مواجهة موضوع تتأمله، لكن هذا الانفصال يختفي في الانفعال العاطفي، إذ تستغرق النفس في موضوعها وتلتحم معه في هوية واحدة، بمعنى أن النفس في هذه الحالة لا تعي التفرقة بين ذاتها والموضوع ما دام الوعي ليس حالة انفعالية لكنه حالة معرفية؛ لذلك فإن الموسيقى تلجأ مباشرة إلى مخاطبة الانفعالات والعواطف.”فالعمل الموسيقي يتغلغل في الأعماق الباطنية للنفس له تأثير فريد على المشاعر والانفعالات البشرية يفوق تأثير الفنون الأخرى”.(24)
بالنسبة لهيغل تعتبر الموسيقى ثاني الفنون الرومانسية بعد الشعر، “فهو ينبئنا، مثل أرسطو، بأن الأنغام أقدر من الألوان وأن السمع أكثر مثالية من الأبصار، إذ أنه في الأنغام الموسيقية يتردد ويتجاوب النطاق الكامل لمشاعرنا وانفعالاتنا التي لا يكون موضوعها قد تحدد بعد”.(25) فالموسيقى أكثر الفنون تحرراً من ثقل المادة. ليست للموسيقى موضوعية في المكان، إذ أن ماهيتها باطنية تتألف من الإيقاع ذاته. تنفي الموسيقى المكان وتعبر عن المضمون الروحي عن طريق تمثيل العواطف والمشاعر في هيئة أصوات لحنية؛ والاختلاف بين الموسيقى والعمارة والنحت يأتى من طبيعة المادة الوسيطة التى تصاغ منها العلاقات والنسب. وفي العمارة تستخدم المادة الثقيلة في المكان وتشيد أبنيتها الضخمة ذات الأشكال الرمزية عن طريق الإدراك الخارجي، على حين تتحرر الموسيقى من المكان ويغوص عالم الأصوات إلى أعماق النفس عن طريق الأذن ويوقظ فيها مشاعر التعاطف.(26)
إن الموسيقى تتعامل مع الصوت والصوت مادة تتلاشى، فهو حركة اهتزازية ليس لها شكل جسماني ولا استمرارية فيزيقية. “إن الصوت الذي كان في الموسيقى رنينا مُبْهَماً، يتحول إلى كلمة، يغدو صوتا ملفوظا، واضحا دوره هو التعبير عن تصورات وأفكار، أن يكون إشارة داخلية روحية. هنا ينفصل العنصر الحسي، الذي يبقى في الموسيقى وثيق الارتباط بالشعور، عن مضمون بما هو كذلك، على اعتبار أن العنصر الروحي يتحدد ويتوضح كي يغدو تمثيلا يتم التعبير عنه بالإشارة العارية من كل قيمة وكل دلالة باطنيتين.”(27) وبعد ذلك “تكون مهمة الشعر هي وضع كلمات للأصوات، أفكار للمشاعر، وتصورات للتأثيرات النفسية، بحيث أن ما كان غامضا غير محدد المعالم يغدو أوضح وأعظم تحديد عم طريق لغة الشاعر.”(28)
حسب هيغل “الشعر هو الفن العام، الأكثر شمولا، الفن الذي أفلح في ارتفاع إلى الروحية الأسمى. فما يُميز الشعر تميزا خاصا هو القدرة المتاحة له على أن يخضع للروح ولتمثيلاته للعنصر الحسي الذي كان الرسم والموسيقى قد شرعا بتحرير الفن منه.”(29) وعلى ذلك “فالموسيقى الغنائية أي التي ترتبط بنص كلامي، تعلو في نظر هيغل على موسيقى الآلات التي لا تعدو أن تكون تعاملا ذاتيا مع صور مجردة. وعن طريق إضافة اللغة بوصفها تعبيرا عن العقل إلى الحركة الشكلية أو الصورية التي يضيفها الإيقاع إلى اللحن، تصبح الموسيقى حافلة بالمعنى بعد أن كانت خالية وتغدو محددة المعالم بعد أن كانت غامضة، وعقلية بعد أن كانت انفعالية خالصة.”(30)
بيد أن هيغل يُنَبِّهُنا(31) هنا إلى أن الموسيقى: تبقى خاوية بلا مدلول. ونظراً إلى أنه، عند ذاك يعوزها عنصر من العناصر الرئيسة في كل فن – أعني المضمون والتعبير الروحيين-، لذا لا يمكن تصنيفها، بعد، في عداد الفنون بحصر المعنى. وإنما عندما يفيد عنصر الأصوات الحسي، في عملية التعبير عن الروحي تعبيراً مطابقاً، بقدر أو بآخر، ترقى الموسيقى إلى مستوى الفن الحقيقي، سواء أصيغ هذا المضمون في ألفاظ – على شكل غناء فردي أو أوبرالي أو كنسي أو أي شيء من هذا القبيل – أم أمكن استخلاصه بصورة أقل وضوحاً من الأصوات وعلاقتها التناغمية وحيويتها اللحنية.
خلاصة
وفي النهاية يمكن القول أن المهمة الخاصة للموسيقى، من منظور هيغل، هي أنها تقدم للروح مضمونا، لا كما يوجد في الوعي كتمثل عام، أو كما يكون موجوداً سلفاً بالنسبة إلى الحدس في شكل صورة خارجية معينة أو مرسومة من قبل الفن، بل كما يمكن أن تصقله الذاتية الجوانية، ويتكشف فيها بملء حيويته. أما المهمة الصعبة التي تقع على عاتق الموسيقى في هذا المضمار، فهي على وجه الدقة موسقة تلك الحياة الكامنة للأصوات، أو اختيار كلمات وتمثلات، لغمرها في هذا الجو ولاستحضار شعور بالتعاطف حيالها. إن الموسيقى حسب هيغل هي من أقدر الفنون تعبيراً عن الداخلي: حيث أن البعد الذاتي هو شكلهـــا ومضمونها ومادتها معاً.
قراءة الهوامش:
- عطية، محسن محمد، غاية الفن، دراسة نقدية، عالم الكتب، القاهرة، 2010، ص
- د. منتهى عبد جاسم، مجلة كلية الآداب/العدد 101، الجامعة المستنصرية، ص559.
- هيغل، المدخل إلى علم الجمال: فكرة الجمال،
- د. روبير مطانيوس معوّض، فلسفة هيغل الحمالية، أوراق ثقافية، العدد السابع، ربيع 2020.
- د. جيهامي، جيرار، موسوعة مصطلحات فلسفيّة عند العرب. مكتبة لبنان، ناشرون، ط1، 1998م، ص 201.
- هيغل، المدخل إلى علم الجمال، فكرة الجمال، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، ط3، 1988م، ص 165.
- المصدر نفسه، ص183.
- المصدر نفسه، ص188.
- هيغل، فينومينولوجيّا الرّوح، ترجمة وتقديم د. ناجي العونلي، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، ط1، 2006م، ص 682.
- هيغل، المدخل إلى علم الجمال فكرة الجمال، مصدر سابق، ص165.
- المصدر نفسه، ص 189.
- المصدر نفسه، ص 190.
- المصدر نفسه، ص 164.
- هيغل، علم الجمال وفلسفة الفنّ، ترجمة مجاهد عبد المنعم مجاهد، ط1، مكتبة دار الحكمة، بيروت، 2007م، ص 182.
- هيغل، المدخل إلى علم الجمال، فكرة الجمال، مصدر سابق، ص 234.
- المصدر نفسه، ص 235.
- نايف لبوز- علم الجمال- المطبعة التعاونية بدمشق (دون تاريخ) ص 211-214.
- هيغل، المدخل إلى علم الجمال، فكرة الجمال، ت جورج طرابيش- دار الطليعة بيروت (دون تاريخ) ص.189
- Hegel (Georg Wilhelm Friedrich); Philosophie de l’esprit, Tome 2, Traduit par: A. Véra, Germer Bailliére-libraire éditeur, 1869, Paris-France, P: 459
- يقول هيغل في الموضع نفسه: «(…) إنّ الجليل-Le sublime هو السمة المميّزة للفن، هيغل، المدخل إلى علم الجمال، ص460.
- المرجع نفسه، ص.465
- المرجع نفسه، ص155.
- «[La musique exprime] tous les sentiments particuliers, toutes les nuances de la joie, de la sérénité, de la gaieté spirituelle et capricieuse, l’allégresse et ses transports, comme elle parcourt tous les degrés de la tristesse et de l’anxiété. Les angoisses, les soucis, les douleurs, les aspirations, l’adoration, la prière, l’amour deviennent le domaine propre de l’expression musicale. […] [Mais] l’art ne donne plus cette satisfaction des besoins spirituels que des peuples et des temps révolus cherchaient et ne trouvaient qu’en lui. Les beaux jours de l’art […] sont passés. […] L’art a perdu pour nous sa vérité et sa vie.» (inHegel, Leçons d’esthétique)
- جوليوس بورتنوي، الفيلسوف وفن الموسيقى، ترجمة دكتور فؤاد زكريا، الطبعة الأولى، دار الوفاء لدنيا الطبع والنشر، 2004، ص227.
- المرجع نفسه، ص227.
- أمل مبروك، فن الموسيقى عند هيغل، https://www.albawabhnews.com/3541703
- هيغل، المدخل إلى علم الجمال: فكرة الجمال، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة، 1978، ص155.
- جوليوس بورتنوي، الفيلسوف وفن الموسيقى، مرجع سبق ذكره، ص228.
- هيغل، المدخل إلى علم الجمال: فكرة الجمال، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة، 1978، ص156.
- جوليوس بورتنوي، الفيلسوف وفن الموسيقى، مرجع سبق ذكره، ص228.
- ابراهيم العريس، فلسفة الموسيقى» بحسب هيغل: فكر لفن متخلص من ثقل المادة/ابراهيم العريس.https://www.alawan.org