أم كلثوم وعصر من الغناء -عبد الكريم الرطابي

حلت يوم ثالث فبراير الذكرى الخمسون لوفاة سيدة وهبت نفسها وروحها للفن وسط صمت قاتل وجاحد.انه عصر من الفن الجميل انتهى برحيل رواده نهاية القرن العشرين، وأصبحت الرداءة سمة الغناء،والكلمات صارت بدون معنى،والموسيقى عبارة عن فوضى صاخبة ، وأصوات شبيهة بالنهيق .هذا زمن آخر تغيرت فيه معايير الجودة الفنية حيث أصبح أشباه الفنانين ينبتون كالفطر في المستنقعات ،صلاحيتهم محدودة .
أم كلثوم والبدايات تميز العصر الذي ظهرت فيه أم كلثوم بحركة فنية صاعدة (مسرح غنائي ) وأصوات طربية (سيد درويش،عبده الحامولي ،منيرة المهدية، سلامة حجازي، كامل الخلعي..). في أسرة فقيرة تقطن بدلتا النيل رأت أم كلثوم النور ( فاطمة إبراهيم 1898- 1975 ) من أب حافظ للذكر الحكيم وأم وأخ (خالد ) يكبرها، وأختها (السعدية) .كان والدها الشيخ إبراهيم البلتاجي يحيي حفلات دينية وعائلية .وهي طفلة سمع صوتها فقرر أن يأخذها وأخاها خالدا رفقته لإحياء حفلات بقريتها (طماي الزهايرة).كانت الصبية ترتدي ملابس أخيها أثناء الإنشاد . فالبيئة القروية المحافظة تمنع الطفلات من الغناء.في البيت حفظت القرآن على يد والدها، كما حفظت الأناشيد الصوفية والأمداح الدينية . أشرف والدها على تربيتها وتعليمها أصول التجويد، كما لقنها المقامات الصوتية فذاع صيتها في القرى المجاورة وأقبل الأهالي على أسرة الشيخ إبراهيم لإحياء حفلاتهم .
رحلة المجد تبدأ من القاهرة قررت أم كلثوم أن ترحل إلى القاهرة(1922) لصقل موهبتها الفنية .استقبلها الشيخ أبو العلا محمد ،وكان مقرئا وعالما بأصول الموسيقى .عندما اقتنع بصوتها الواعد مدها بألحانه (أفديه إن حفظ الهوى، وحقك أنت المنى ).كانت الألوان الطاغية على الأسماع هي (الأدوار والطقاطيق والموشحات ). وكانت مشاعا بين جميع الأصوات .
كانت منيرة المهدية هي النجم المفضل عند السميعة حتى لقبت ب(سلطانة الطرب).ما أن وطأت أم كلثوم مسارح القاهرة حتى تنبأ لها العارفون بالطبقات الصوتية بأن فنانة قادمة من الهامش سيسطع نجمها.وكانت منيرة المهدية أولى ضحاياها،فانسحبت في صمت.توفي الشيخ أبو العلا (1927) وقد تركها بين فنانين كبار اقتحموا خامات صوتها ليخرجوا منه دررا فنية لا تنضب.الدكتور داود حسني طبيب الأسنان من هؤلاء الذين أعجبوا بصوتها فقدم لها أجمل ألحانه (حسن طبعه اللي فتني،كل ما يزداد رضا قلبك،ياعين دموعك…) كان( شاعر الحب والشباب)أحمد رامي يتابع دراسته في فرنسا .بعد عودته علم بفتاة تمتلك صوتا يسحر الآذان غنت له قصيدة (الصب تفضحه عيونه).أعجب بصوتها وموهبتها فقدم لها نفسه وانطلقت المسيرة الفنية بينهما أكثر من نصف قرن.
محمد القصبجي التحق بها في بداية مشوارها وقدم لها أجمل الأدوار والمونولوجات(رق الحبيب) .اشتهر القصبجي بالتجديد في الموسيقى.حين قدم لها قصيدة (هل تيم البان فؤاد الحمام )من شعر شوقي -وهي من أروع ما لحن- لم تغامر .كانت تخشى رد فعل الجمهور.فهو لم يتعود إلا على الطربيات الكلاسيكية.قدم القصبجي هذا اللحن لأسمهان (آمال الأطرش )، فرفعها إلى قمة المجد.هي قصيدة فريدة في التلحين.كان ينهي كل بيت شعري بقفلة محكمة الصنعة فيصعد بحرف المد في القافية (الحمام ،الغمام،الضرام) إلى أقصى مداه.
بعد قصيدته (هل تيم البان) اكتفى القصبجي بدوره عازفا لآلة العود في فرقتها ،وبقي ملازما لها حتى وافته المنية.
الشيخ زكريا أحمد أو شيخ الملحنين اكتشف صوتها من خلال الأدوار التي كانت تؤديها. رافقها منذ بدايتها.شكل ثنائيا رائعا رفقة(محمود بيرم التونسي). فبيرم يكتب وزكريا يلحن. منذ الأربعينات بدأت ألحان الشيخ زكريا تكتسح الساحة الفنية لعذوبتها وأصالتها.فغزت المشاعر وعبرت عن مكنونات الصدور.قال عنه السنباطي ( زكريا أحمد طائر مذبوح يرقص طربا).لقد استغنت أم كلثوم عن التخت الشرقي لأنه ارتبط بغناء الدور والموشح والطقطوقة واستعانت بفرقة عصرية من العازفين المهرة.فسهراتها أصبحت تقام في مسارح فخمة والجمهور تعددت مشاربه الفنية والاجتماعية والثقافية.
تميزت هذه المرحلة بالمطولات الغنائية ،فغنت من شعر بيرم وألحان زكريا قصائد(حلم، حبيبي يسعد أوقاته،الأوله في الغرام،أنا في انتظارك ،أهل الهوى،كل الأحبة اثنين اثنين..). فألحان زكريا الطربية حولتها أم كلثوم إلى ملاحم غنائية. أما قصيدة (الآهات)فقادت أم كلثوم إلى ردهات المحاكم.فزكريا يطالب بالرفع من قيمة ألحانه.احتار القضاة في الأمر…واستمرت القطيعة أكثر من تسع سنوات.انتهت بتدخل الأصدقاء من عالم الفن والثقافة للصلح بين العملاقين.فالجفاء بينهما ضيع زمنا من الإبداع .عاد زكريا بقصيدة من شعر بيرم التونسي (هو صحيح الهوى غلاب) وكانت آخر ألحانه للست.
مرحلة السنباطي بعبقريته التي شهد بها أساتذته أمكن لرياض السنباطي أن يصبح أستاذا في المعهد الموسيقي قبل نهاية موسمه الدراسي وعمره لم يتجاوز الثامنة عشر.تمكن رياض من العبور بصوت أم كلثوم إلى آفاق جديدة، فاستغل مساحات صوتها البكر ليحلق بها في عوالم رحبة وساحرة من النغم الذي لم تعرف الأذن العربية مثيلا له.وكانت أم كلثوم تدرك هذه اللمسة الفنية السنباطية فأبدعت في أداء روائعه.ولم يكن ليبخل عنها فأخرج من أعماقه أعذب الألحان وأجملها.ومن غيرها يستطيع أن يؤدي ألحانه المركبة ذات الأحاسيس العميقة؟ لقد كانت تبدع وهي تعيد بعض المقاطع الغنائية بطريقتها الارتجالية الخاصة، فيحس المستمع كأنه أمام ألحان جديدة تختلف كلية عن القالب الموسيقي الذي وضعه الملحن . ف(أروح لمين) ظلت ترددها في حفلاتها طيلة ثلاث سنوات. وكثيرا ما خرجت عن المقام الأصلي للحن واقتحمت عوالم مجهولة لتعيد صياغة الجمل اللحنية بطريقة فيها كثير من الإبداع وهي تنتقل بين مقامات جديدة يقودها الارتجال فتدخل عوالم من الحال(السلطنة) تشدو لنفسها كأنها في كوكب آخر .لم يقتصر هذا الارتجال على ألحان السنباطي فقط،بل امتد ليشمل ألحان الشيخ زكريا أحمد (أهل الهوى).ففي قصيدة (الأوله في الغرام) نجد ثلاثة تسجيلات.كل تسجيل يبدو بصوتها لحنا جديدا يختلف عن اللحن الأصلي.فالكوبليه الأول من القصيدة (في صيغها الثلاثة) أخرجت منه نفائس الأنغام وأعذب الألحان . ونفس الشيء بالنسبة لألحان القصبجي .فمونولوج (رق الحبيب) قدمته من خلال(5سهرات متوفرة).كل سهرة تختلف عن الأخرى في الخروج عن المقام الموسيقي الأصلي (مقام نهاوند ) فتشرد في تسابيح لا حدود لها. لم تكن لتبلغ هذه المدارج لولا موهبتها الفنية والإحساس بتفاعل الجمهور الحاضر.
بليغ حمدي الفتى المتمرد أواخر الخمسينات التحق بأم كلثوم طينة جديدة من الملحنين الشباب كمال الطويل ،محمد الموجي .بليغ حمدي في سن الثامن عشرة أصبح ملحنا للطبقة الثانية من المطربين ( فايدة كامل …) أعجب الفنان محمد فوزي بعبقريته فاقترحه على أم كلثوم .لم تمانع لأنها كانت تعي أن جيلا من الملحنين الذين صنعوا مجدها شاخوا وهي في أوج عطائها.منحت الفرصة لبليغ ولم يخيب ظنها.عن عمر الثالثة والعشرين أصبح بليغ يقارع الكبار.ألحان بليغ تركيبة موسيقية بسيطة . فهي من السهل الممتنع مثل قصيدة (نزار قباني) تطبعها الزخارف الجميلة التي تملأ الفراغات الموسيقية.لم يكن يهدأ له بال .ولم يكن يستقر على جمل لحنية قارة.كان عظيما في التجديد الموسيقي ومجيدا في الإبداع.
مقدمة (فات الميعاد) التي لحنها هي عبارة عن سمفونية عظيمة .فمن الجمل اللحنية البسيطة استطاع بليغ أن يعبر بالمستمع إلى شواطئ عذراء لم تطأها آلة إنسان. أصر الرئيس جمال عبد الناصرعلى التقريب بين أم كلثوم و عبد الوهاب.فكان لقاء العمالقة أو لقاء السحاب أثمر (أنت عمري)،ثم توالت ألحانه (هذه ليلتي-أمل حياتي-أنت الحب-أغدا ألقاك- ليلة حب …) وكان (سيد مكاوي) آخر من التحق بها في بداية السبعينات بلحن وحيد (يا مسهرني).لحن لها أغنية ثانية (أوقاتي بتحلو) لكن مرضها وموتها حال دون ذلك .
شعراء أم كلثوم غنت أم كلثوم لشعراء قدامى ومعاصرين.فكانت تختار من عيون الشعر ما تتذوقه.غنت للشاعر العباسي الشريف الرضي(قولي لطيفك ينثني)ولأبي فراس الحمداني (أراك عصي الدمع) .في هذه القصيدة أصرت أم كلثوم أن تكسر قواعد اللغة .فهي ليست مقدسة. في البيت الثاني من القصيدة غيرت كلمة (بلى) ب(نعم) . فالجملة الاستفهامية المسبوقة بنفي يكون الجواب عند الإتباث ب(بلى)،وعند النفي يكون ب(نعم).إنها ثورة على القواعد ،ولم تؤثر على وزن التفعيلة (بلى ووزنها فعل بتسكين حرف العلة، ونعم ووزنها فعل بتسكين الميم). لم تكن أم كلثوم صوتا يغني فقط ،بل كانت فنانة مثقفة عصامية درست اللغة العربية ودرست كتاب (الأغاني ) لأبي الفرج الأصفهاني،كما تعلمت اللغة الفرنسية.لقد كانت على دراية علمية بالمقامات الموسيقية (المدرسة القرآنية) فأحسنت الانتقال بينها بيسر وسلاسة دون أن يشعر المستمع بنغمة نشاز.
كما غنت للشاعر الفارسي عمر الخيام مقاطع من رباعياته اختارتها بعناية فائقة. في بيت شعري منها (أطفئ لظى القلب بشهد الرضاب) أبدعت جماليا وبلاغيا في هذا البيت حين صار بلسانها (أشعل هوى القلب … ).إن إطفاء نار الوجد في الفؤاد برضاب الحبيب لن يزيد القلب إلا احتراقا .
إبراهيم ناجي الطبيب شاعر الأطلال (148 بيتا شعريا ) اختارت الست أبياتا من أطلاله. كعادتها غيرت مطلع القصيدة (يا فؤادي رحم الله الهوى)ليصبح (يا فؤادي لا تسل أين الهوى) (أيها الشاعر تغفو) لتصبح (أيها الساهر تغفو).كما غنت لابن الفارض(غيري على السلوان قادر)،وكذلك لابن زيدون الأندلسي (كم بعثنا مع النسيم سلاما)ولابن النبيه المصري قصيدتين (وحقك أنت المنى- وأفديه إن حفظ الهوى).ومن القصائد التي اختلف الرواة في نسبتها(يا رسول الله خذ بيدي)غنتها أم كلثوم حين زارت المغرب 1968 بالصدفة .بهذا اللحن تكون أم كلثوم قد غنت لملحن غير مصري هو صالح الشرقي عازف آلة القانون.
من الشعراء الذين شدت بقصائدهم أحمد شوقي .فقد أهداها قصيدة مستوحاة من سر صوتها بعنوان (سلوا كؤوس الطلا ).مات الشاعر وبقيت القصيدة نائمة بين أدراج دولابها. كان لقاؤها برياض السنباطي أوحى لها بأنه قادر على تلحين القصيد.نجح السنباطي ونجح اللحن.ارتأت أم كلثوم أن تغني من أشعار شوقي قصائد دينية (نهج البردة)و(ولد الهدى).أما قصيدة(سلوا قلبي غداة سلا وتابا) فقد فجر بيت منها (وما نيل المطالب بالتمني ** ولكن تؤخذ الدنيا غلابا )غضب الشعب المصري وخرج يطالب بجلاء المستعمر البريطاني عن أرض الكنانة .بسبب المظاهرات التي عمت مدن مصر استدعى مدير الإذاعة المصرية بأمر من المشرف على الإعلام( وكان انجليزيا) أم كلثوم وهددها بمنع أغانيها من البث.كما غنت له قصيدة (النيل).وغنت لشاعر النيل حافظ إبراهيم (وقف الخلق).
من باكستان غنت للشاعر محمد إقبال (حديث الروح)بعد ما ترجمها الصاوي شعلان إلى اللغة العربية.ومن السعودية غنت للأمير عبد الله الفيصل (ثورة الشك)و(من أجل عينيك).وغنت للشاعر السوداني الهادي آدم (أغدا ألقاك) ومن لبنان غنت للشاعر جورج جرداق (هذه ليلتي).
08/02/2025