نصف قرن منذ دخول مراكش ضاحكا-أحمد الخمسي

يوم الإثنين 17 مارس 2025، يصادف مرور خمسين عاما على دخول مراكش أيضا يوم اثنين 17 مارس 1975.
بعد احتجاز بمقر بلاص بيتري للشرطة بالرباط نهاية الأسبوع (13-16مارس)، وجدت نفسي، مسفرا، رفقة أربعة طلبة، ثلاثة من أزيلال، ورابع مراكشي عريق، بلهجته وحركات وجهه.
ساد الصمت بعد تصفيد اليدين وتعصيب العينين، وطال وقت السفر، لنجد أنفسنا منحرفين عن الدار البيضاء في اتجاه سطات. وقتها، وخلال استراحة تهامس البعض فيما بينهم، محتملين التوجه نحو مراكش. خصوصا وتلاميذ أطلس بني ملال يواصلون الدراسة بمراكش ساعتها غالبا. عبد الرحيم لم يهدأ له بال، وحار فيما قد يهابه من مصير مجهول. لم يملك القدرة على السكوت، مما جمّع لدى طاقم حراسة السفر ولدى الطلبة الآخرين، أربعتنا، أن عبد الرحيم فقد بوصلة التصرف العاقل.
تخيل نفسك لم تجتز قط، خط الدار البيضاء جنوبا، والآن تجد نفسك وقد وسّع “السفر” دائرة تجوالك في بلدك الجميل. جزء من موجز السيرة الجغرافية في حياتك. فيما متابعتك أخبار الأمة والبشرية على صعيد الكرة الأرضية كثيفة بؤر التوتر والحروب التي لا تهدأ: حرب أكتوبر، فلسطين، يومية القصف فوق فيتنام بواسطة قاذفات ب.52، طوباماروس، الألمان، اليابانيون رفقة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في التضامن الأممي، تفاصيل مجلتي الهدف والحرية. إطلالة لومند ديبلوماتيك الشهرية. متفرقات حرب العصابات في أمريكا اللاتينية. تنويعات الشباب الأوربي والأمريكي، بوب ديلان، جون بيز، العودة إلى الغيوان والشيخ إمام. كانت روحانيات المغاربة، وهم متكتلين فيما بينهم، تجعل من التضامن مع فلسطين قسطاس الفرز بين الوعي والجهل. لم يكن الاختباء في التدين حاجة ملحة للتضامن مع فلسطين. كان جورج حبش رفيق ياسر عرفات في التضحية من أجل وطنهم، وإن اختلفوا في الانتماء العائلي بين الفلسطيني المسيحي والفلسطيني المسلم. وهو ما جعل المغاربة جميعا مع فلسطين سواء اسمهم سيون أسيدون أو ابراهام السرفاتي أو عبد الرحيم بوعبيد أو محمد بن سعيد آيت يدر أو ادمون عمران المالح أو شمعون ليفي.
***
نصف قرن منذ دخول مراكش ضاحكا
يوم الإثنين 17 مارس 2025، يصادف مرور خمسين عاما على دخول مراكش أيضا يوم اثنين 17 مارس 1975.
حط السفر في ما سوف يصبح محج العالم، ساحة جامع الفنا. لم نستوعب أننا كنا “ضيوفا” في بلدنا في أجمل نقط الضوء فيه، ضمن كهف لا يبعد عن الضوضاء والأضواء حيث يبعث العالم سفراء له لاكتشاف المغرب التاريخي. سوف نقرأ بعد أربعين سنة كتب الرحالة الفرنسيين والانجليز والاسبان، عن طقوس الاستقبال السلطاني. وسوف أعلم فيما بعد، أن البعثة الاسبانية (1863) ظلت تنتظر دورها في استقبال السلطان، تسعة أيام بعد أول وعد، وأن شريف وزان كان له الحظوة عند السلطان الذي يحترم بل يحرص على التقاليد المرعية، في تراتبية الأولياء والصالحين وشيوخ القبائل قبل الأجانب.
في جولات الاستنطاق خلال الاعتقال بمراكش، كان التعذيب، الوسيلة الوحيدة التي يملكها طاقم التحقيق، لاستخراج معلومات عن التنظيم السري الذي كنا جزءا منه.
أما المعتقل، من الصنف الذي كنته، وأنا ابن الواحد والعشرين من العمر، فكان عتاده الفكري والروحي والتعبوي، أنه سليل شعب يستحق العيش الكريم بعزة نفس مساوية لتلك التي جابه بها جيل المقاومة وهو يلقي بنفسه في التهلكة، من أجل أن يكون للشعب ملك يرضى عنه وليس الذي ارتضته السلطات الاستعمارية. في الرباط، ونحن طلبة، كنا نتسلل نحو شارع علال بن عبد الله، لندخل مكتبة الأمنية حيث الفلسطيني وجيه فهمي صلاح، لاقتناء بعض كتب المقرر في كلية الحقوق، وفي الشارع الموازي الرئيسي، شارع محمد الخامس، كنا نتجول في مكتبات أخرى للاطلاع على الكتب الجديدة التي صدرت عن دار ماسبيرو ووصلت للتو إلى العاصمة. كان شارل بيتلهيم قد اشتهر بكتاب “الصراع الطبقي في الاتحاد السوفياتي”، مما كان يغذي رؤيتنا حول وجهة النظر الماوية عن حالة الاشتراكية البيروقراطية الروسية.
في انتظار حفلة التعذيب الموالية، كان حسين الطوكي والراحل عبد الجبار حسون، قد أسندا رأسي وقدما لي وجبة أكل صغيرة، فاستعدت معنوياتي، وتجدد إيماني بقضيتي. لم يكن رأسي يمتلئ بالأفكار المستوردة. كان محمد الخامس واسمه يجاور اسم الفقير علال بن عبد الله في تسمية شارعي العاصمة، يجعلني أتخيل أن ابن يوسف من صنف خاص، رفقة رونودوم سيهانوك، من زعماء الشعوب، وكانت حصص محمد الحبابي في الاقتصاد في كلية الحقوق وكذا حصص عبد الرحمن القادري، تجعل منا يساريين في قلب الرصيد الوطني، جيلا يستكمل دور الحركة الوطنية في عهد الاستعمار، نشتغل كي يستحق المغرب والمغاربة رتبة أجدادهم، ضمن سؤدد الأمم العظيمة.
الوعي اليساري من هذا النوع كان يضع مسافة مع الاقتباس الببغائي للأفكار المستوردة. لم يستوعب كل اليساريين ما سوف ينبثق عن المفاوضات المغربية الاسبانية مما سمي “اتفاقية مدريد”. لكن الحصافة التاريخية كانت تجعل من دماغي يستخلص أن دبلوماسية الأمم العريقة في الصراع تنتهي بما يضمن التوازن بين المتصارعين. كانت “اتفاقية مدريد” بمثابة “اتفاقية بريست-ليطوفسك” نهاية الحرب العالمية الأولى. المغرب هكذا بعظمة روسيا التي يعرف قادتها اليساريون كيف يميزون بين الخسارة والربح في الحرب والسلم.
سوف يلعب الاعتقال في حياتي دور المختبر الوطني حيث تزيد حصة الوعي في ماكنة النضال مثل الرحى التي تصب فيها ليترات من ماء المعاناة، لتصفية معدن صدق المواقف الثمين عن غبار المزايدة اللفظية وطفيليات الانتهازية ومرض الطفولة اليساري.
هذه التفاصيل، وإن جاءت من بعد، انعكست روحها على حضور العقل في ظروف التعذيب بمراكش، أعني روح الفصل بين الكينونة المغربية وبين المعارضة السياسية. هو ما جعلني في اختبار مع نفسي، أفصل بين جسد المعارض في يد سلطة القمع، وبين القامع والمقموع كلهم مغاربة، كل له دور في الحفاظ على جزء من كينونة المغرب. تخيلت ساعتها أن أي نظام في العالم له أجهزته الأمنية مهمتها الحفاظ على هيبة الدولة أولا وأخيرا. هذا الفرز بين الغث والسمين في السياسة، خلق لدي صحوا ذهنيا، فلم أغرق في نفسية المظلومية، بل ارتفعت معنوياتي ضمن سلم المسؤولية: المعارض يعارض وأجهزة الأمن تقوم بواجبها، فلا يمن المعارض على الشعب بتضحيته ولا أجهزة الأمن تمن على الشعب بتنفيذ مهامها الوظيفية. ليس للأمر علاقة مع “بداهة الشر” (حنة أرندت). ساعتها حددت لنفسي مهمتها الرئيسية: بصفتك منتميا لمنظمة سياسية لها قيم وأهداف نبيلة، عليك يا خاي أحمد أن تفي بعهد وتحفظ سرية المنظمة، وعليك أن تحترم الخصم كما يقال اليوم في عالم كرة القدم. نجحت بعد ذلك، في حفظ سرية الرفيق الذي كان تعذيبي يستهدف إفشاء سره. لم تتسرب الكراهية الى نفسيتي. ولم يعرف الانهزام إليها أبدا إلى اليوم.
آمنت بأن للدولة الحق في متابعة من تعتبرهم خارج القانون. وأن للشعب النضال ضد النظام الذي لا يخلص لما ناضل من أجله محمد بن يوسف وعلال بن عبد الله.
آمنت أيضا أن ضعف الأجهزة يكمن في الاعتماد على وسيلة التعذيب، بدل قدرتها على حصر المعتقل في زاوية الاعتراف بما تؤكده الحجج ووسائل الإثبات وبالمنطق السياسي والانتماء للوطن بقيمه النبيلة. وآمنت أيضا أن الاستقواء بالشعارات في التظاهرات الجماهيرية ثم الانكفاء ضمن كتلة الخوف والمظلومية تناقضا شقيا في وعي بدائي لدى المناضلين.
من ثمَّ، حددت معادلة الاعتراف بنضالي من أجل انتزاع شرعية الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، وهو ما كان فعلا عليه نضالي في كلية الحقوق بالرباط/أكدال، ضمن حزمة المهام النضالية لمنظمة 23 مارس. مقابل نفي انتمائي لمنظمة 23 مارس، ضمن عدم صلاحيتي للاعتراف بذلك، لأن قادتها المؤسسين عزموا على تركتها سرية إلى أن تتغير الظروف السياسية في البلد. وهو ما جرى بعد 1979، وهي المعادلة التي نجحت في التوصل إليها. ساعتها كنت أنفذ مبدأ شهير عن الدبلوماسي “الذي يخدم بلده بكل صدق، حتى لو اضطر للكذب”. عندما يتطابق الصدق الوطني مع صدق النضال فالجسد لا يخذل الروح، والصبر يفوق في طاقته التحملية، الطاقة القهرية للتعذيب. لم أتبجح يوما – على منصة نقاش- أنني معتقل سياسي سابق، لأن الاعتقال السياسي في الأصل مذمة لبلدي وليس مفخرة للمغرب العظيم. فلا أرض لنفسي أن أفاخر بما يمس سمعة المغرب. أناضل وأُعتقَل، نعم. أفخر بما يمس المغرب، أبدا. على جثتي كما يقول المصريون. لن أفعل. لا أقايض النبل في موجز سيرتي بسمعة المغرب. أستحيي أمام الشهداء الذين تجرعوا السم (مثل الزرقطوني) لحفظ كرامة الوطن والشعب والدولة. من لا يصر الوفاء لبلده لا يحق له من بعد التبجح بالصدق للقيم الإنسانية ولا للقضايا العادلة.
***
نصف قرن منذ دخول مراكش ضاحكا
يوم الإثنين 17 مارس 2025، يصادف مرور خمسين عاما على دخول مراكش أيضا يوم اثنين 17 مارس 1975.
في الحياة الاجتماعية للمعتقلين داخل كوميسارية جامع الفنا، كانت نكهة مراكشية لذيذة، الروح المرحة لشباب مراكش، كانت تملأ لحظات الاعتقال بالتنكيت والسخرية المرحة. لأن مرحلة الاستنطاق لا تنتهي ما لم ينتقل المعتقلون من فترة الحراسة النظرية إلى سجناء صادر في حقهم حكم المحكمة.
من خلال جلسات مع “بوقال”، وهو مراكشي عريق من الأحياء الشعبية، وكذا من لم أعد أعلم ما إذا ما زالوا على قيد الحياة أم لا، ولكن حسن موطّا ومحمد المرابط ومحمد رضا كانوا صناع النكت المتفجرة ضحكا، بحيث تشعر أنهم يولدوا للحظة نكتهم الطازجة بقدرة استثنائية على الإضحاك.
كان أصغر المعتقلين، ضمن حملة اعتقالات وسط التلاميذ إثر توزيع منشور للبوزاريو بمراكش، كان لطيف المعشر وفي جلساتي الثنائية معه، وبعد علمه أنني من الشمال، فتح قلبه يحكي عن سرقة شباب طانطان “لاندروفير” الآباء ثم الاختفاء في اتجاه تندوف. كان يحفظ بعض أناشيد البوليزاريو ساعتها. (هول النضال كامل زين، أنا العامل أنا الفلاح، أنا الحامل فكرة لينين)… عندما أطلق سراحه بعد مدة قصيرة، رفقة أحمد اخشيشن الذي أصبح وزيرا للتعليم فيما بعد، وطالع السعود الأطلسي الذي حظي بالحضور لندوة صحافية للراحل الحسن الثاني باسم أنوال فيما بعد، اعتقدت أن الدولة تعرف ما تريد. وزاد إيماني بقناعاتي النضالية رسوخا. وما أضمرت العداء لأحد قط. لأن أصل النضال، أن نناضل من أجل، لا أن نناضل ضد. نناضل من أجل قضايانا العادلة، أما الاعتراضات فنتحايل لتجاوزها في الطريق. وبذور الخير في أصل كل إنسان. أما الوعي القائل أن الإنسان ذئب لأخيه الإنسان، فمن بقايا شراسة الظروف الطبيعية في أوربا الشمالية حيث الثلوج لا ترحم والذئاب البيضاء لا ترحم. كما تظهر وثائقيات ناسيونال جيوغرافيك.
***
نصف قرن منذ دخول مراكش ضاحكا
يوم الإثنين 17 مارس 2025، يصادف مرور خمسين عاما على دخول مراكش أيضا يوم اثنين 17 مارس 1975.
عندما قررت منظمة 23 مارس التحول إلى العمل السياسي العلني وفق القوانين الجاري بها العمل، كانت الظرفية الدولية والإقليمية قد تغيرت. بل تتبعت تجربة المغرب بعدما قررت الدولة وضع قضية استكمال الوحدة الترابية على رأس جدول الأعمال وهو ما ظلت الأحزاب الوطنية الديمقراطية تطالب به طيلة الستينات وبداية السبعينات. وظهر أن العودة إلى توحيد البرنامج السياسي بين الدولة والأحزاب يقتضي ذلك. كان للاتحاد الاشتراكي السبق عندما عقد مؤتمره الاستثنائي في يناير 1975، واتجهت المنظمة في نفس الاتجاه، لأن العمل السياسي المعارض لا يعاند في شكل ما من المعارضة إذا ما أصبحت ثوابت البلدان مشتركة في استراتيجية واحدة.
ومع ذلك، انفرد كل من عبد الرحيم بوعبيد ومحمد بن سعيد آيت يدر بتفصيلين جزئيين، اعترف الزمن التاريخي بصوابهما: التفصيل الأول كان في تصريح للراحل ابن سعيد في حوار مع الصحافي الاتحادي الراحل محمد باهي حرمة في باريس أن منهجية “الالحاق القسري” الذي قد يشعر به مغاربة الأراضي الصحراوية المغربية من واجب السياسة الوطنية الوحدوية أن تتلافاه عبر حوار مع المكونات القبلية ونخبها السياسية، صدر هذا الموقف أواخر السبعينات. والتفصيل الثاني، هو موقف الراحل عبد الرحيم بوعبيد بصدد الاستثفتاء الذي فرضته القمة الافريقية في نيروبي سنة 1981، والذي يجب رفضه.
لقد احتفظت الدولة بالملاءمة كي تضم موقفي الزعيمين في أطروحة موحدة تحت اسم “الحكم الذاتي” الذي قدمه المغرب للأمم المتحدة سنة 2007. وظهر أن درس المغرب هو لم كل الاجتهادات في أقنوم وطني واحد. جاءت النتيجة أن خلال الثماني عشر سنة الأخيرة تمكن من خفض الاعتراف بالكيان الانفصالي من 80 دولة إلى أقل من 20 دولة حاليا.
***
نصف قرن منذ دخول مراكش ضاحكا
يوم الإثنين 17 مارس 2025، يصادف مرور خمسين عاما على دخول مراكش أيضا يوم اثنين 17 مارس 1975.
أيضا وأيضا، عندما قرر قادة منظمة 23 مارس، تنفيذ التحول والعودة من المنفى إلى أرض الوطن، وضمن تحويل مساهمتهم في الحياة السياسية، لم يأت ذلك فقط في خضم العمل الوطني من أجل الصحراء المغربية، بل لمواجهة مستجدات الانسياق الجماهيري مع الثورة الإيرانية منذ 1979، وما تبع ذلك من حملة سياسية محافظة تكاد تعصف بالحريات الفردية. يخبرنا الضابط الاستعماري جورج سبيلمان، أنه سنة 1964، وجه اللوم إلى الأميرة الراحلة عائشة، كونها عبرت عن ضرورة الحرية للمرأة المغربية ضمن المطالبة بالاستقلال رفقة الملك وولي العهد بطنجة في 10 أبريل 1947.
وبعد ثلث قرن (1981)، خلط الإسلام السياسي شعار الجهاد في أفغانستان مع رزمة من مطالب فرض الدكتاتورية من تحت بالاستقواء على المرأة المغربية. فأصبح قادة الاتجار بالدين يسعون لإخراج كل شعار متطرف محافظ لوضع القيود في أيدي وأرجل المغربيات.
كان دخول الراحل محمد بنسعيد آيت يدر ورفاقه إلى أرض الوطن بالتحديد يوم 8 مارس 1981. وذلك للرمز والإشارة كون منظمة العمل الديمقراطي الشعبي، دخلت لممارسة الدفاع عن مكتسبات المرأة المغربية، ضد التغول الذكوري باسم التديُّن. فعرفت الحياة السياسية أول حركة نسائية سياسية وأول جريدة نسائية 8 مارس تعرّف بأوضاع المرأة المغربية وترفع مطالبها وحقها في المساواة وحفظ مكتسباتها المحققة منذ الاستقلال.
وهو ما وضع فوق طاولة النقاش السياسي مراجعة مدونة الأحوال الشخصية التي بقيت منسية منذ وضعها سنة 1957، بداية الاستقلال.
***
نصف قرن منذ دخول مراكش ضاحكا
يوم الإثنين 17 مارس 2025، يصادف مرور خمسين عاما على دخول مراكش أيضا يوم اثنين 17 مارس 1975.
أثمر حضور منظمة العمل الديمقراطي الشعبي ما سبق ذكره، بخلفية تنويرية وعقلانية، تحت شعار مركزي: “دمقرطة الدولة، ودمقرطة المجتمع”. فدور الأحزاب السياسية، ليس حصر العمل السياسي موسميا بين الحملة الانتخابية والحملة الموالية. بل دعمت تقاليد الأحزاب الديمقراطية، التي تجعل من مقراتها موطئ قدم لكل الحركات الاجتماعية النقابية والثقافية والحقوقية والنسائية والشبابية والجمعوية.
ودمجت رمزية المقاومة المغربية في الريف خلال العشرينات من القرن الماضي ضمن رمزية التضحية التي على المغاربة تذكرها. مما جعل اسم جريدة أنوال نجما ساطعا في سماء الإعلام المغربي طيلة ستة عشر عاما (1979-1996).
ولأن التشرب الهادئ غير الانفعالي بالشعار المركزي “دمقرطة الدولة ودمقرطة المجتمع” بقي حاضرا بجدته وحيويته في فهم جدل السياسة “مع وضد” وليس ميكانيك المعارضة المتخلفة “مع أو ضد”، فقد اكتسبنا علاقات الاحترام في المحيط الاجتماعي والسياسي والثقافي. مما وفّر هبة مجتمعية بداية التسعينات اقترح علينا أصدقاء مؤثرون في المجتمع المدني (عبد اللطيف البازي، بلال أشمل، حسن أمزيان) تحمل مسؤولية جريدة محلية تحت اسم الأنوار (من اقتراح بلال). واستمر دعمها بفعل دعم التغطية المالية (عبد الوهاب وحميد البجوقي، محمد الزواق) والكتابة (مخلص الصغير، عبد اللطيف المودن….) والقضايا النقابية والجمعوية…ووقف إلى جانبها في محاكمة شكلية محلية أساتذة محامون تنصبوا للمرافعة في وجه تلفيق أريد منه توقيفها، ووجد ساعتها بين القضاة من نظر بعين العدل فحفظ الملف الفارغ ولم يصدر في حقها حكما ظالما. ذات يوم، عندما لمسنا الشغل الشاغل لعامل إقليم شاب على إقليم المضيق الفنيدق يبذل كل ما في وسعه لتغيير وجه المنطقة في حدود اختصاصاته الترابية والنوعية، لم نصمت، بل شهدنا بالحق ورفعنا اسمه عاليا في منابر أخرى منتصف العشرية الأولى من الألفية الثالثة.
ضمن هذه الروح الديمقراطية المتوازنة، اشتغلنا بلا كيد ولا مزايدة ولا عدمية وما سعينا للاستيلاء على أرصدة الآخرين ولا مارسنا التضليل.
ولما ساندت الأنوار موقف أنوال في الدار البيضاء كان ذلك، ضمن دعم حرية التعبير، وسقط بذلك في الماء قرار وزير الداخلية الراحل ادريس البصري. وقد مزح معي مؤخرا، الأستاذ الصديق مصطفى الحداد، وقال ساعتها، أرجعتم صيغة أنوال إلى أصلها، لأن إخواننا مغاربة الريف ينطقون الراء لاما والعكس صحيح، فأصل أنوال أنوار وينطقون بلجيكا برجيكا وهكذا دواليك.
تلك بعض مما دعمه في روحنا المرور أول التجربة بأرض مراكش الحمراء، التي ظل المشارقة والأوربيون يطلقون اسم المغرب انطلاقا من اسمها الأمازيغي الجميل.
خلاصة: في شريط وثائقي، حول الأستاذ سعيد يقطين، في القناة الثقافية الرابعة، صرح أحد المثقفين، كون الأستاذ سعيد، توجه نحو الإنتاج العلمي في السرديات والسرديات المترابطة، بسبب انهيار المشروع السياسي. جاء التصريح بعد فقرة في الشريط تظهر مساهمة الأستاذ يقطين في جريدة أنوال.
الفهم الذي صرح به المثقف المعني، فهم ميكانيكي ولا علاقة له بجدل الحياة السياسية الحية التي تبدل اشكالها والفاعلين والأجيال والبرامج والاستراتيجيات. فقد دخل الاستعمار بادعاءات الوعي الزائف المضلل الذي يختلق نظريات “بلاد المخزن وبلاد السيبة” ومثيلاتها من الشعارات الاستعمارية التي بواسطتها استباح نهب خيرات المغرب. رغم أن المثقف المعني لا يدخل في اعتباره أن المغرب الذي أسقط طائرة القائد العام للقوات الاستعمارية المسلحة الجينرال ريمون دوفال، وهو ما لا يعرفه المثقف المعني، ترك العديد من المثقفين يرددون التضليل الشائع كون المغاربة وجدوا أنفسهم تحت راية الاستقلال سنة 1956، كما لو جاء ذلك هبة من فرنسا. ضمن هذا المنطق الكسول صرح المثقف انعطاف الأستاذ سعيد يقطين نحو الإنتاج العلمي. المثقف المعني يجهل كون مقرر دستور 2011، الراحل البردوزي من مدرسة منظمة 23 مارس… ولا يعلم المثقف سعيد بنكراد وليسأل المثقف سعيد ناشيد… وغيرهم…لا مشروع أبدي سوى المشروع الإلهي. أما الحياة البشرية فمسلسل وحلقات تناسب كل واحدة منها مرحلة تاريخية.
قبل قرن ونصف كانت مساحة المغرب تزيد عن مليون كلم مربع، فهل سقط مشروع كيان المغرب اليوم لأن المساحة غير تلك المساحة؟ مع ذلك، فجودة الإنتاج العلمي للأستاذ سعيد يقطين من جودة الأستاذ وجودته هي التي أمالته للمشروع السياسي ولم تنزع به نحو الانتهازية السهلة. مثلما الارتباط العضوي الذي لا يسقطه التاريخ وإن انتهت مرحلة ما من تاريخ المغرب، سيبقى للعروي وللجابري ولجسوس وغيرهم من الكبار طيبة وعبق الاتحاد.
ما تسقط المؤسسة ومن يسقط هم الذين ورطوا منظمة رائعة مثل اتحاد كتاب المغرب، فتاريخ هذا التجمع العتيد للمثقفين المغاربة لا يمكن أن ينهار، بل الانتهازيون الذين تسلقوا قيادته هم الذين انهاروا.