في لحظة مفصلية يتقاطع فيها الإكراه الاقتصادي مع الحنين الجماعي، وبين دعوة ملكية رفيعة للترفع عن مظاهر لا تليق بواقع القطيع، وبين لهفة شعبٍ للتشبث بطقسٍ لا يُختزل في الذبح، تتجلى مفارقة العيد هذا العام.
الصور التي التُقطت لعشرات المواطنين وهم يتجمهرون أمام المجازر في محاولات لاقتناء بعض الكيلوات من اللحم، لم تكن مشاهد “فوضى”، بل كانت مشاهد بشرٍ يبحثون عن نصيبهم في المعنى، لا في المادة.
مشاهد من واقعٍ ضاق على الناس حتى صار الفرح نفسه ترفاً يُدان عليه الفقير، ويُعفى منه المترف.
من المحزن أن تصدر الأحكام سريعاً، وأن تُلوَّن مشاهد الكفاف بلون الجشع، بينما تُترك اليد الطويلة التي التهمت المال العام، وسوّقت الوهم، ورفعت الأسعار، في الظل بلا مساءلة.
ليس دفاعاً عن الفوضى، بل عتابٌ على غياب الرحمة في زمن يفترض أن يتسع فيه القلب… على الأقل مرة في السنة.
طقسٌ لا شعيرة: عن لهفة الفقير، وحياء الدولة، وازدواجية المجتمع
في سابقة تعبّر عن إدراك دقيق لحساسية المرحلة، وجّه جلالة الملك محمد السادس هذه السنة نداءً رفيعًا، مفعمًا بالأدب والحكمة، إلى شعبه، داعيًا إياه، بكل احترام، إلى الامتناع عن ذبح الأضحية، نظرًا لما تعانيه البلاد من ضعف في القطيع وغلاء فاحش في الأسعار. لم يكن الخطاب أمراً ولا فرضاً، بل تلميحًا راقياً إلى أن الضرورة تبيح الرفق، وأن العقل يجب أن يعلو على الطقس.
ومع ذلك، فقد أبى كثير من المواطنين إلا أن يتمسكوا بطقس العيد، وإن لم يُذبح الكبش. لم يكن ذلك من باب العناد، ولا من باب التشبث الفارغ بمظاهر الاستهلاك، بل كان تمسكًا بما يُمكن تسميته “الطقس المجتمعي” لا “الشعيرة الدينية”.
فالعيد، في وجدان المغاربة، لم يعد مجرد شعيرة تُمارَس، بل ذاكرة جماعية تُستعاد، وعادة متجذرة ترتبط بالهوية، وباللمة، وبالدفء، وبالشعور بأن الحياة، رغم قسوتها، لا تزال تمنح لحظات صغيرة من الفرح.
بين خطاب الدولة وصرخة المواطن
في الوقت الذي اختارت فيه الدولة أعلى درجات النُّبل في خطابها، تجنّبت فيه الإملاء، وتركت للمواطن حريته في التقدير، جاءت بعض ردود فعل المجتمع قاسية، جافة، جارحة، وبدل أن يحتضن البعض هذه الاختيارات الشعبية بعين الفهم والتعاطف، انطلق في جلد الفقراء بكلمة واحدة قاسية: “لهطة”.
ألهذه الدرجة باتت محاولة الاحتفاظ بطقس بسيط – كقطعة لحم على مجمر بئيس أو كصحن كسكس جماعي – تهمة؟
ألهذه الدرجة صار الفقير يُدان لأنه أراد أن يُفرح أبناءه بطقوس قد لا تتكرر؟
مفارقة مخجلة: القسوة على الفقير… والتعامي عن الفساد
الانتقائية في الأحكام الاجتماعية فضيحة حقيقية.
حين يتعلق الأمر بمواطن بسيط يلهث وراء لقمة شواء، تنهال عليه الشتائم والوصم: “تخلف”، “فوضى”، “همجية”، “لهطة”…
لكن حين يتعلق الأمر بناهبي المال العام، ومفترسي ميزانيات “المخطط الأخضر” وغيره، لا نرى ذات الحدة في الإدانات، ولا ذات الحماسة في التنديد.
فلماذا يُوصَم من أراد طبق كسكس شعبي، بينما يُعفى من أكل كل شيء في صمت؟
أين كان ضمير المجتمع حين تم التهام ميزانيات فلاحية وتنموية كان من المفترض أن تضمن العيد لكل المغاربة؟
أين هي محاسبة الذين تحكموا في الأسواق الداخلية ورفعوا الأسعار بلا رحمة، وساهموا في استنزاف الثروة الحيوانية؟
ليس دفاعًا عن الفوضى… بل رفضًا للخذلان
من المهم هنا أن نُعيد التأكيد على الموقف الأخلاقي:
نحن لا ندافع عن الفوضى، ولا عن العشوائية، ولا عن مناظر قد تسيء للصورة العامة.
لكننا نرفض أن يُختزل الفقير في تصرف عفوي، بينما يُطوى ملف المفسد في هدوء قاتل.
نرفض أن تكون اليد الممدودة نحو المجمر تهمة، واليد الممدودة نحو خزينة الدولة “اجتهادًا تنمويًا”.
الذين اصطادوا مشهد الازدحام حول المجازر وسخِروا منه، تجاهلوا أن ما شاهدوه كان صرخة إنسانية هادئة، لا “لهطة”.
كان تمسكًا بما تبقى من الفرح… لا جشعًا.
كان تعبيرًا عن فقدان القدرة على شراء العيد، لا عن التهامه.
الطقس ليس ترفاً… بل هوية
ما لا يفهمه الكثيرون أن العيد – ولو بلا أضحية – يظل محطة رمزية في الوجدان الجماعي المغربي.
الاجتماع حول الكصعة، إضرام النار في المجمر، تبادل الشاي والشواء، إكرام الجار، فرحة الأطفال…
كلها ليست شعائر، لكنها طقوس ترمم الذات المهددة بالتفكك.
وحين يُمنع الفقير حتى من ممارستها، يصبح الإقصاء مضاعفًا: إقصاء اقتصادي، وإقصاء وجداني.
في الختام: لا تحاكموا صحن الكسكس… حاكِموا من سلب ثمنه
لقد أبدى جلالة الملك هذه السنة رفقًا بالحال، وتفهّمًا دقيقًا لتعقيدات المرحلة.
لكن بعض الخطابات المجتمعية المقابِلة جاءت قاسية باردة لا ترحم.
وهذا الاختلال في التوازن بين الأعلى والأدنى، بين الرسمي والشعبي، يكشف أزمة عميقة في العدالة الرمزية داخل المجتمع.
كفى تجريمًا للفرح البسيط.
كفى تحميلًا للفقير ما لا يحتمل، وكفى صمتًا عن أكل المال العام.
فمن سرق بهجة العيد الحقيقي ليس من جلس حول مجمر متواضع،
بل من فرّغ الأسواق من المعنى، واستنزف الكرامة من القدرة الشرائية، وخذل الطبقات الضعيفة في أكثر مواسم الفرح حاجة إليها.