وجهة نظر

طهران، القاهرة والهواجس المشتركة -د. محمد أكديد

   في توقيت حساس تجري خلاله المفاوضات المتعثرة بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية، وتتعرض فيه مصر لضغوطات كبيرة ومساومات متواصلة من أجل توطين الفلسطينيين في سيناء، حصلت فيه خطوات التقارب المفاجئة بين القاهرة وطهران بعد زيارة وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي لمصر ضمن جولة شملت لبنان، حيث تم طرح ونقاش عدد من المستجدات التي عرفتها المنطقة مع المسؤولين المصريين، خاصة التطورات في فلسطين المحتلة فضلا عن طرح رؤية جديدة لتعزيز العلاقات الثنائية بين البلدين.
وقد أوضح رئيس مكتب رعاية المصالح الإيرانية في مصر محمد حسين سلطاني فرد قبل الزيارة بأن عباس عراقجي سيزور مصر بصفتها دولة حضارية وتاريخية مؤثرة في المنطقة العربية، ولكونها مقر جامعة الدول العربية، منوها بأن هذه الزيارة جاءت بدعوة من وزير خارجية مصر بدر عبد العاطي، وستشمل أيضا لقاء رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسي ونخبا مصرية وعدد من الإيرانيين المقيمين في البلاد. وهو ما دفع العديد من المراقبين إلى تسليط الأضواء على هذه الزيارة النوعية لكونها جاءت في ظروف يمكن وصفها بالحرجة لكلا البلدين من جهة، ولثقل البلدين في المنطقة التي تعرف هزات متتالية منذ سنوات بسبب التدخلات الأمريكية والعنهجية الصهيونية من جهة أخرى.
لاأحد يمكنه إنكار الأدوار التاريخية الريادية التي لعبتها مصر عبد الناصر خصوصا في مواجهة قوى الإمبريالية الاستعمارية التي تمثلت حينها في بريطانيا وفرنسا، حيث دخلت هذه القوى مع الكيان الصهيوني في حرب ضد مصر بعد القرار التاريخي للرئيس الراحل جمال عبد الناصر تأميم قناة السويس وتسببت في نكبة 1967 ، لتستمر المواجهة بين مصر وإسرائيل على كافة الأصعدة حتى بعد وفاة عبد الناصر، حيث توجت بحرب 1973 التي انتصر فيها الجيش المصري في عهد الرئيس أنور السادات مسنودا بعدد من الجيوش العربية في مقدمتها الجيش العربي السوري في عهد حافظ الأسد. وقد كانت إيران في تلك الآونة منحازة للمعسكر الغربي وخاضعة لحكم الشاه رضا بهلوي الذي كان يعتبر أقوى حليف للولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة بعد الكيان الصهيوني.
لكن الخيبة كانت كبيرة بعد أن وقع السادات اتفاقية كامب ديفيد مع رئيس الوزراء الإسـرائيلي مناحيم بيغن في 17 سبتمبر 1978 لتخرج بذلك مصر ذليلة من الصراع مع الكيان مقابل الاعتراف بسلطتها على سيناء التي كانت قد احتلتها إسرائيل وقسط من المساعدات الأمريكية، وذلك في نفس الوقت الذي كان فيه الموج الثوري يتصاعد رويدا رويدا بالعاصمة طهران حيث كان الشعب يتابع الخطب والبيانات النارية للإمام الخميني الذي سيكون له دور ريادي في توجيه انتصار الثورة الإسلامية في إيران ووضع الجمهورية الوليدة في معترك الصراع مع القوى الامبريالية والحركة الصهيونية بالمنطقة، ليعوض الفراغ الذي تركه الزعيم الراحل جمال عبد الناصر.
حيث لم يتردد الخميني بعيد انتصار الثورة الإسلامية في استقبال ياسر عرفات بحفاوة ثورية وجماهيرية وسط العاصمة طهران ليسلّمه مفاتيح أول سفارة لفلسطين في العالم، وذلك في نفس المبنى الذي كانت تشغله سفارة العدو. وهكذا عوضت إيران الثورة انكسار ميزان القوة في الصراع بتراجع مصر إلى الخلف وانخراطها في مسلسل التسوية مع الكيان المحتل، بعد أن كانت تحمل لواء المواجهة.
لم تكتف الجمهورية الإسلامية تحت قيادة الإمام الخميني بقطع علاقات إيران الشاه مع كل من الكيان الصهيوني وحلفاءه الغربيين في البلد وفي مقدمتهم الولايات المتحدة الأمريكية، بل إنها آلت على نفسها مناصرة الشعوب المستضعفة وكل حركات المقاومة في المنطقة العربية على الخصوص، وفي مقدمتها المقاومة الفلسطينية والمقاومة اللبنانية حيث أشرف الإمام الخميني على تأسيس حزب الله بلبنان وقبل ذلك دعم حركة أمل التي أسسها الإمام المغيب موسى الصدر القادم من إيران حينها.
وهو ما أدى بالدول العربية وخصوصا ملكيات الخليج إلى الاصطفاف ضد إيران الثورة ومحاصرتها بالنعرات المذهبية، حيث تم دعم صدام ليخوض حربا ضروسا ضد الجمهورية الإسلامية الوليدة لمدة ثمان سنوات بدعم غربي أمريكي مفضوح. وهو ما دفع ثمنه البلدين خصوصا العراق الذي عانى كثيرا بعد الحرب خصوصا من مآمرات جيرانه الخليجيين مما استفز صدام حسين لاجتياح الكويت مرتكبا خطأ استراتيجيا كارثيا سوف تتراكم تداعياته فيما بعد مؤدية إلى سقوط العراق في يد المحتل الأمريكي وتفكيك أحد أقوى الجيوش بالمنطقة العربية.
حيث لم تتوقف المآمرات عند هذا الحد، بل إنها سوف تستمر كما تنبأ بذلك المفكر وعالم المستقبليات المغربي الراحل المهدي المنجرة في كتابه الحرب الحضارية الأولى باستهداف كل من الجيش المصري الذي ظل صامدا رغم استكانته بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد لتنجح خطة تحييده من المواجهة، والجيش السوري بعد أن نجحوا أخيرا في إسقاطه بعد سنوات من حملات التشويه والتجييش التي قادتها قنوات عربية ضد نظام الأسد الذي كان حليفا استراتيجيا لإيران، لتسقط سوريا المقاومة أخيرا في شرك التقسيم والتطبيع، حيث كان أول قرار اتخذته الحكومة التي جيء بها على دبابات أمريكية تركية لحكم دمشق هو حل الجيش العربي السوري كما فعلت أمريكا في العراق قبل أكثر من عشرين عاما.
اليوم، وبعد سقوط العراق وسوريا في يد المحتل تعود الأضواء مجددا لتسلط على مصر التي باتت تتعرض لضغوطات رهيبة من أمريكا أولا بعد امتناعها عن تلبية طلب ترامب بتوطين الغزاويين في سيناء ورفض السيسي -طبعا بتوجيه من الجيش المصري- دعوة ترامب للحوار حول هذا الموضوع في البيت الأبيض فضلا عن المناورات العسكرية في سيناء وتزايد وتيرة التسلح خلال السنوات الأخيرة خاصة بعد انفتاح مصر على أسواق السلاح الروسي والصيني، ومن محيطها العربي ثانيا خصوصا من قطر وحليفتها تركيا بعد التضييق على الإخوان المسلمين في البلد واعتقال قادتهم، حيث يتهم جمهور هؤلاء بأن الجيش هو من قاد الانقلاب على الرئيس الراحل مرسي في حين يرى مخالفيهم بأن الجيش قد أنقذ في الواقع الدولة المصرية من هيمنة وتسلط الإخوان أو ما بات يسمى بأخونة الدولة خاصة بعد محاولة مرسي فرض الإعلان الدستوري الذي كان يراد من خلاله تحويل النظام في مصر من نظام برلماني إلا نظام رئاسي على غرار ما فعله أردوغان في تركيا، كما أنقذ اقتصاد البلد المنهار عبر الاستثمارات الخليجية خصوصا من السعودية والإمارات المعاديتان لمشروع الإخوان في مصر.
لكن الوضع المصري اليوم ليس أقل سوءا منه بالأمس، بل إن الأمور ازدادت تعقيدا وباتت أكثر حساسية خاصة مع استمرار المعارك على الحدود في كل من السودان وليبيا والحضور القوي لتيار الإخوان هناك مدعومين من كل من تركيا وقطر التي لم تأل جهدا في تجريم النظام المصري والتجييش ضده عبر قنواتها الإعلامية على رأسها الجزيرة. كما يشكل مشروع سد النهضة تهديدا خطيرا يطال الأمن القومي للبلد، حيث يخيم شبح الجفاف في حال تمكنت إثيوبيا من ملئ السد بشكل كامل أو حتى بنسبة كبيرة. وهو المنفذ الذي دخلت منه إسرائيل لحصار مصر من الجنوب عبر تمويل مشروع بناء هذا السد ودعم إثيوبيا سياسيا لمواجهة مصر. حيث ستتزيد خطوات التقارب الحالية مع إيران من منسوب تهديدات النظام المصري، وهو ما بات ظاهرا من خلال حجم التصريحات الإسرائيلية والأمريكية ضد مصر في الآونة الأخيرة.
من جانب آخر، لازالت إيران تعاني من تبعات الحصار الأمريكي الخانق والعقوبات المفروضة عليها من الغرب منذ انتصار الثورة الإسلامية، وحمل لواء المواجهة ضد إسرائيل وداعميها الغربيين في المنطقة، خاصة بعد وقفتها الأخيرة لإسناد غزة عبر شركاءها في محور المقاومة مما أثار عليها حنق الكيان والولايات المتحدة الأمريكية اللذان يغيظهما أكثر تمسك الجمهورية الإسلامية بمشروعها النووي بالإضافة إلى تطوير برنامج صاروخي صار يهدد عمق الكيان، ويثير مخاوف أمريكا التي باتت تجتهد لتجنب المواجهة العسكرية مع إيران خشية استهداف قواعدها في دول الخليج، وإن كانت إسرائيل تتحين الفرص لاستهداف المنشآت النووية الإيرانية وتدفع أمريكا إلى دعمها في هذا القرار.
لذلك ولأسباب أخرى، بعضها ديني، حيث تمثل إيران القلب النابض للعالم الشيعي بعد العراق التي تضم مقامات عدد من أئمة أهل البيت (ع)، في مقدمتهم الإمام علي وابنه الإمام الحسين (ع)، في حين تمثل مصر عمق العالم السني بمؤسسة الأزهر الشريف التي أسسها الفاطميون الشيعة في عهد المعز لدين الله الفاطمي الذي بنى القاهرة أيضا وعددا من المآثر التاريخية والروحية -من ضمنها مقام السيدة زينب ومقام رأس الحسين (ع)- التي لازال يحتفي بها المصريون إلى اليوم. كما وقد انخرط علماء الأزهر خلال الفترة الحديثة في مشروع التقارب بين العالمين الشيعي والسني بدءا من الثلاثينات بدءا من المراسلات التي جرت بين الشيخ سليم البشري والمرجع اللبناني السيد شرف الدين الموسوي وربما قبل ذلك، وكذا مع الشيخ محمد شلتوت الذي أجاز في فتواه الشهيرة التعبد بالمذهب الجعفري -نسبة إلى الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع)- الذي يدين به الشيعة خلال فترة الخمسينات، وما تلى ذلك من تأسيس دار التقريب بين المذاهب الإسلامية بين علماء ومراجع معتدلين من الطائفتين إلى غير ذلك من الخطوات التي لم تكتمل في العالم السني بسبب جهود مشايخ التكفير من داخل المؤسسة الوهابية بدعم عدد من دول الخليج خاصة السعودية، والتي نجحت إلى حد ما في إفشال هذا المشروع. وبعضها اجتماعي، حيث يتقاسم الشعبين الإيراني والمصري نفس الحب لعثرة النبي (ص)، وكذا النفور من كل ما يمت بصلة للكيان الصهيوني رغم تورط النظام الرسمي في التطبيع من خلال بنود اتفاقية كامب ديفيد…سيشكل هذا التقارب مصدر قلق كبير للغرب عموما ولأمريكا والكيان الصهيوني بالخصوص. إذ سيفوت عليهم مستقبلا استغلال الأوراق الطائفية والعرقية لإثارة الفتن والقلاقل بين المسلمين من جهة، كما سينتج عن هذا التقارب عودة مصر بقوة إلى مشهد المواجهة مع الكيان وإلى الخريطة الدولية بعد عقود من التبعية والتنازلات التي فرضتها اتفاقية كامب ديفيد، والتي باتت بدورها على المحك بعد الاستفزازات الإسرائيلية التي باتت تهدد الأمن القومي المصري.
وأخيرا، نأمل أن يستعيد العالم الإسلامي هيبته وعنفوانه بمثل هذه التوافقات الجيواستراتيجية الواعدة في أفق تكتلات أخرى، وأن يتجاوز خلافاته الطائفية المقيتة التي يستغلها الغرب الطامع في ثرواته وأراضيه والصهيونية العالمية لتنفيذ مخططاتها التوسعية الخبيثة في المنطقة العربية الإسلامية.

*باحث في علم الاجتماع السياسي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى