وجهة نظر

شرق أوسط جديد… أم إعادة تدوير القديم؟ من سردية “الاستثمار الذكي” إلى واقع “الوهابية المحينة ”مصطفى المنوزي

في قلب السجال الجيوسياسي الراهن، يبدو أن الشرق الأوسط بصدد إعادة صياغة ذاته، أو على الأقل تقديم هذه الصياغة ضمن سردية “العقلانية الاستثمارية” الجديدة. الصحافي يونس دافقير قدّم قراءة بانورامية لهذا التحول، يُروّج من خلالها لصعود محور سعودي-إماراتي “حداثي”، يستثمر الذكاء الاصطناعي بدل “البترودولار”، وينسج شراكات استراتيجية بدل التبعية لواشنطن. لكن، إلى أي حدّ يُجسّد هذا التحول قطيعة فعلية مع ماضٍ تقليدي واستبدادي ؟ أم أن ما يحدث هو فقط تحوير ناعم لجوهر قديم بثوب جديد؟

أولًا: السردية الخليجية الجديدة – “رؤية” أم تسويق؟
يرى دافقير أن دول الخليج، وعلى رأسها السعودية والإمارات، لم تعد “دول جزية”، بل صارت مستثمِرة جيوسياسية تنخرط في لعبة الكبار على أساس المصالح لا الأيديولوجيا. وينقل صورة عن تحولات استراتيجية تشمل:
* تخلٍّ عن الراديكالية الدينية مقابل تبنٍّ للترفيه والتكنولوجيا؛
* تحالفات مع أمريكا مبنية على الاستثمار المتبادل؛
* قيادة “محور سني” لإعادة هندسة الإقليم.
لكن هذه السردية، على جاذبيتها الشكلية، تخفي عدة تناقضات هيكلية:
1. اقتصاد “عقلاني” على قاعدة ريعية :
لا يمكن بناء اقتصاد استثماري حقيقي في ظل استمرار تحكم العائلة الحاكمة في الصناديق السيادية (مثل صندوق PIF)، وفي غياب مؤسسات ديمقراطية رقابية. فحتى مشاريع “نيوم” و”الذكاء الاصطناعي” ما تزال تموّل من عائدات النفط، لا من اقتصاد إنتاجي مستدام.
2. عقلية السوق بسقف وهابي
بينما يتم التسويق لسردية التحرر الاجتماعي والانفتاح، تُبقي النخب الحاكمة على البنية الرمزية القديمة للوهابية، ولكن بثوب تكنوقراطي. فالخطاب الديني لم يُلغ، بل أُعيد تأطيره ليخدم مشروع الدولة الجديدة: “وهابية تقنية” تُخدر الداخل، وتُسوق الخارج.

ثانيًا: تناقضات سردية “الخطر الإيراني”
يركز موقف دافقير على إيران كعدو مركزي، يُبرّر من خلاله التحالف الخليجي-الأمريكي، والتدخل في سوريا واليمن، بل وحتى تطبيع العلاقات مع إسرائيل. غير أن هذا التبرير يتجاهل مسؤولية الأنظمة الخليجية نفسها في إنتاج هذا “الخطر”، عبر:
* دعم الأنظمة القمعية في مصر واليمن وسوريا سابقًا، ما خلق فراغًا ملأته طهران.
* تهميش القوى التقدمية والمدنية، وشيطنة الإخوان المسلمين دون التمييز بين من هو مسلح ومن هو إصلاحي.
* ممارسة عنف ناعم وخشن داخل بلدانهم ضد كل رأي نقدي، ما ينزع الشرعية الأخلاقية عن ادعاءاتهم بالدفاع عن الاستقرار.
وهنا، لا تعود إيران فقط خصمًا جيوسياسيًا، بل تُستعمل كفزاعة لتبرير الاستبداد الداخلي والاصطفاف الخارجي.

ثالثًا: عن التحول الذي لم يكتمل :
رغم مظاهر التحديث، تبقى بنية الدولة الخليجية سلطوية:
* لا مكان فيها لمعارضة حقيقية أو تداول ديمقراطي؛
* لا توجد مراجعة جادة لتركة تمويل التطرف خلال العقود الماضية؛
* لم تُسائل أجهزتها الإعلامية ولا شبكاتها المالية عن دعمها السابق للتنظيمات السلفية.
* بل ما جرى هو مجرد إعادة تدوير للسردية القديمة: بدلاً من “الإسلام هو الحل”، صار “الاستثمار هو الحل”، دون مساءلة البنى المنتجة للمأزق.

رابعًا: في نقد الاصطفاف الإعلامي :
يشير دافقير إلى صعود “العربية” وسقوط “الجزيرة”، في دلالة على انتقال القوة الناعمة إلى يد السعودية. لكن هذا التحول ليس انتقالًا من أيديولوجيا إلى عقلانية، بل من أيديولوجيا إلى بروباغندا سلطوية جديدة. نفس منطق التوجيه والتعبئة، ولكن بمصطلحات محدثة: من “الجهاد” إلى “التحول الرقمي”.

خامسًا: المغرب في مرآة الصراع
ينبّه يونس الكاتب إلى أن المغرب قد يدفع ثمن موقفه من غزة، في سياق تصادم المحاور العربية. وهنا يُطرح السؤال:
* هل يملك المغرب استقلالًا استراتيجيًا أم أنه مجرد تابع في صراعات أكبر منه؟
* وما هو موقع الشعوب المغاربية من هذه التحولات؟ هل هي معنية فعلًا بـ”الذكاء الاصطناعي” و”الشرق الأوسط الجديد”، أم أن أجندة الحريات والديمقراطية تم تهميشها لصالح الرهانات السلطوية؟

وكخاتمة نطرح إستفهاما حول الحداثة بلا ديمقراطية؟
إن الشرق الأوسط الذي تصفه سردية دافقير ليس جديدًا بقدر ما هو نسخة معدلة من الماضي:
* استبداد بواجهة تكنوقراطية؛
* تحالفات مع القوى الكبرى مقابل شرعية مؤجلة؛
* هيمنة ناعمة تُغلف عنفًا بنيويًا؛
* وأزمات كامنة تحت القشرة اللامعة.
فهل يمكن لنموذج “الاستثمار بلا محاسبة”، و”الإصلاح من الأعلى”، و”العلمانية الزائفة” أن يصمد أمام أزمات اقتصادية أو تحولات أمريكية مفاجئة؟
أم أننا سنكتشف لاحقًا أن “الشرق الأوسط الجديد” هو مجرد وهم كبير… مُزين بشاشات تاتش ومؤتمرات خضراء؟
تساؤلات نطرحها للنقاش الهادئ :
* أيُّ شرق أوسط نريد؟
* شرقًا تهيمن عليه تحالفات المال والسلطة؟
* أم شرقًا تُعيد فيه الشعوب تعريف المعنى والجدوى؟

مصطفى المنوزي
منسق دينامية ضمير الذاكرة وحوكمة السرديات الأمنية .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى