مدخل:
لطالما قُدّمت “إسرائيل” في السردية الغربية باعتبارها القاعدة المتقدمة للديمقراطية، والعقل التقني، والحليف الأمني الموثوق في قلب شرق ملتهب. لكن التحولات الجيوسياسية الجارية، خصوصًا بعد 7 أكتوبر، كشفت عن هشاشة هذه الصورة وعن احتمالٍ لم يكن يُؤخذ بجدية: هل تحوّلت إسرائيل من ذراع استراتيجية إلى عبء وظيفي؟ وهل باتت قابلية الاستغناء عنها واردة لدى الغرب نفسه؟
هذا السؤال، وإن بدا صادمًا في سياق إعلامي مهيمن على سردية “الدعم المطلق”، إلا أنه يطل برأسه من خلف مؤشرات عميقةو استراتيجية ، تفرض مساءلة مآل المشروع الصهيوني ضمن النظام العالمي الجديد.
أولًا: نقد وهم “الشراكة” مع إسرائيل
غالبًا ما تُعرض علاقات الدول العربية، بما فيها المغرب، مع إسرائيل كخيار سيادي و”شراكة رابحة”، خصوصًا في مجالات التكنولوجيا، الأمن، الاستخبارات، وحتى الزراعة والماء. غير أن هذه “الشراكة” تخفي في عمقها منطقًا وظيفيًا، تتحول فيه الدول من كيانات ذات قرار إلى أدوات تنفيذ في استراتيجية توسع إسرائيلية أمنية – استخباراتية عابرة للحدود.
وكما نبّه عبد الله الترابي، فإن انتصار إسرائيل الساحق لا يعني تقوية شركائها العرب، بل تحويلهم إلى تابعين، يُستثمرون في مشاريع أمنية واقتصادية تخدم “تل أبيب” وتُفقد دولهم ما تبقى من استقلال القرار السيادي.
لكن السؤال الأهم هنا لم يعد يتعلق بمصير العرب، بل بـ مآل إسرائيل نفسها.
ثانيًا: من المشروع الوظيفي إلى الاستنزاف الاستراتيجي :
وُجدت إسرائيل لتؤدي وظيفة: كبح المد القومي والتحرري العربي، ضمان أمن النفط، منع أي تكتل مستقل في المنطقة، وابتزاز الأنظمة لصالح المنظومة الغربية. لكنها اليوم أصبحت:
تستنزف الغرب أخلاقيًا: فقد باتت صورتها كدولة “متشبهة لديهم بالديمقراطية” تنهار تحت وطأة مشاهد الإبادة والتدمير الجماعي في غزة، ما يحرج النخب الغربية التقدمية ويقسم الرأي العام.
فهي تستنزف الغرب أمنيًا: وحروبها لم تعد خاطفة ولا حاسمة، بل تُهدد بإشعال جبهات متعددة، وقد تُدخل المنطقة كلها في توترات و صدامات لا يمكن ضبطها، وهو ما يتعارض مع أولويات الولايات المتحدة التي تسعى للتركيز على آسيا.
تستنزف الغرب سياسيًا: فالدفاع عنها بات يتطلب قمع الحريات في الداخل الغربي نفسه، من الجامعات إلى الإعلام، ما ينسف أسس “الديمقراطية الليبرالية” التي يدعي الغرب تصديرها.
ثالثًا: فرضية الاستغناء… هل نحن أمام صفقة تفكيك ناعم؟
هنا تبرز الفرضية التوقعية:
* ماذا لو كانت إسرائيل، في نظر بعض دوائر الغرب، قد بلغت نهاية صلاحيتها؟
* هل يمكن تصور “صفقة كبرى” تُدمج فيها المنطقة في نظام أمني – اقتصادي جديد، بدون إسرائيل ككيان محتل بل كدولة محايدة أو منزوعة المخالب؟
ربما ليس قريبًا، لكن المؤشرات تتزايد:
* تنامي الممانعة الغربية داخل المجتمعات المدنية ضد دعم إسرائيل.
* تنامي نفوذ قوى إقليمية (تركيا، إيران، محور المقاومة) بمعزل عن “الهيمنة الإسرائيلية”.
* تصدع الداخل الإسرائيلي سياسيًا واجتماعيًا، وتراجع روح “المشروع الصهيوني”.
رابعًا: في قلب التحول… العرب من التبعية إلى الفاعلية؟
إن الفرضية الأخطر ليست فقط انهيار الدور الوظيفي لإسرائيل، بل أن تجد بعض الأنظمة العربية نفسها في موقع لا يمكن فيه الاختباء خلفها. فحين تسقط الذراع، يُنتظر من اليد أن تتحمل المسؤولية. فهل نحن مستعدون كدول وشعوب ومجتمعات مدنية لما بعد إسرائيل كذريعة أو كمظلة؟
وهل نملك مشروعًا مستقلًا للسيادة، أم أننا سنبحث عن “إسرائيل أخرى” نرتمي في ظلها؟
وهنا يصبح نقد التبعية العربية ليس فقط فضحًا للعلاقات القائمة، بل استباقًا لتحولات قادمة قد تفرض علينا مواجهة فراغ الحماية أو الوصاية.
هنا ينبغي تسجيل تحوّل إسرائيل من مشروع وظيفي إلى عبء استراتيجي ليس مجرد أمل سياسي أو رغبة انتقامية، بل احتمال استراتيجي تتيحه موازين القوة الناشئة وتحولات الرأي العام الغربي. لكن سقوط الذراع لا يُنتج تلقائيًا نهوض الجسد. لذلك، فإن المعركة الحقيقية ليست فقط في إسقاط إسرائيل كقوة فوقية، بل في إعادة تشكيل القرار السيادي العربي، وتحرير العقل من التبعية الإرادية، سواء كانت للغرب أو لإسرائيل .
مصطفى المنوزي
منسق دينامية ضمير الذاكرة والسرديات الأمنية