وجهة نظر

العدوان الإسرائيلي على إيران…قراءة في الدوافع والرهانات والتداعيات -د. محمد أكديد

 

ما إن نفذت إسرائيل هجومها الغادر على إيران، والذي استهدف قيادات عسكرية من الصف الأول وعلماء نوويين كبار وعدد من المفاعلات النووية من أبرزها نطنز وفوردو، حتى خرج بعض ممن يقدمون أنفسهم كمحللين استراتيجيين في عدد من القنوات الغربية والعربية يتنبؤون بسقوط النظام الإيراني، وكأنهم يؤدون أدوارا مسبقة الإعداد بتنسيق مع العدو الصهيوني الذي لم تكتمل فرحته بعد أن ردت الجمهورية الإسلامية هذه المرة في نفس الليلة لتحبط جمهور “أين الرد الإيراني؟” والذي أجبر على تمرير الكرة لجمهور “المسرحية المتوافق عليها بين إسرائيل وإيران” قبل أن يسلم هذا الأخير الراية بدوره إلى جمهور “اللهم اضرب الظالمين بالظالمين” بعد أن أظهرت المقاطع والصور المسربة من الداخل الإسرائيلي حجم الدمار والخراب الذي خلفته الصواريخ الإيرانية في عدد من المواقع العسكرية والإستراتيجية والاقتصادية في عمق الكيان بعد أن قطعت آلاف الكلمترات متجاوزة عددا من منظومات الدفاع الجوي الموزعة بين البر والبحر في عدد من الدول الحليفة لأمريكا والكيان بالمنطقة قبل أن تخترق القبة الحديدية التي يتفاخر بها الكيان لتصيب أهدافها بدقة متناهية.
في بداية العدوان وبعد الهجوم الخاطف الذي شنته المقاتلات الإسرائيلية على طهران يوم الجمعة الماضي، أي قبل أن تكتمل المفاوضات مع الثعلب الأمريكي كما وعد ترامب الذي وضع لها يوم الأحد كآخر أجل قبل إعطاء الضوء الأخضر لإسرائيل بالهجوم إن لم تنتهي بنتيجة ترضي الولايات المتحدة الأمريكية، وقد كان من أبرز شروطهم وقف تخصيب اليورانيوم نهائيا، الأمر الذي رفضته القيادة الإيرانية بحزم، حيث أجمع المراقبون بأن هذا الهجوم قد تم الاتفاق عليه بين أمريكا وإسرائيل ورأى بعضهم بأن المفاوضات نفسها كانت فقط خدعة لاستدراج الإيراني قبل الإجهاز عليه في لحظة الصفر، ليتكشف أخيرا بأن هذه اللحظة قد تم الإعداد لها مع عملاء الداخل من خلال كم هائل من الجواسيس والخونة الذين استطاع بعضهم اختراق منظومة الحرس الثوري نفسها حسب بعض التقارير وتعطيل الدفاعات الجوية وقطع الكهرباء عن بعض الإدارات والمواقع مما ساعد في نجاح الضربة الأولى التي أطاحت بقادة كبار على رأسهم قائد الحرس الثوري اللواء حسين سلامي ورئيس أركان القوات المسلحة الجنرال محمد باقري وقائد القوات الجوية للحرس الثوري العميد علي حاجي زاده وقائد المقر المركزي لخاتم الأنبياء اللواء غلام علي رشيد.. وقد رافق ذلك محاولة لإشعال الشارع الإيراني من خلال هجوم عناصر مشبوهة على مقرات الشرطة وإشعال الحرائق في الإدارات والمؤسسات الرسمية، الأمر الذي تم إحباطه من طرف قوات التعبئة الشعبية شبه العسكرية المعروفة “بالبسيج” أو المتطوعون، والتي تم تأسيسها من طرف الإمام الخميني نهاية عام 1979 إثر نجاح الثورة الإسلامية، حيث تم تفكيك عدد من الخلايا الإرهابية التي وجد مع بعضها قنابل ومسيرات كانت معدة لاستهداف مقار حكومية ومؤسسات استراتيجية وربما مفاعلات نووية ومواقع اقتصادية في الداخل الإيراني، مما يرجح بأن استهداف مقار ومنازل قيادات الحرس الثوري كانت من الداخل، على غرار عملية اغتيال الشهيد إسماعيل هنية والعالم النووي الإيراني حسن فخري زاده. كما أن هذه العملية المعقدة والتي من المرجح بأن الإعداد لها لم يكن وليد اللحظة، بل منذ سنوات، وهو دفع بعض المحللين إلى تشبيهها بعملية البايجر التي استهدف الكيان من خلالها عناصر حزب الله اللبناني ضمن مخطط الإجهاز عليه لإخراجه من جبهات إسناد غزة، كانت ستتوج أيضا باغتيال المرشد الإيراني نفسه علي الخامنائي لولا أن تمت حمايته بنقله في آخر اللحظات إلى مكان آخر.
لقد كانت بالفعل ضربة قاسية، لكن وكما يقول المثل السائر الضربة التي لا تقتلني فهي تقويني، وهو ما فعلته إيران التي امتصت هذه الضربة بسرعة خاطفة وإرادة عجيبة لتنهض كالعنقاء من تحت الرماد وتضرب بقوة عمق الكيان الصهيوني مستهدفة عددا من الأهداف الاستراتيجية والعسكرية والاقتصادية في كل من تل أبيب وحيفا ومدن أخرى، لعل من أبرزها مقر وزارة الدفاع، ووزارة الاقتصاد، وقاعدة تل نوف الجوية، ومركز تل أبيب المالي، ومنصة الغاز قبالة سواحل غزة، وعدد من مقرات الموساد، وقاعدة نيفاتيم الجوية، ومحطة توليد الكهرباء في حيفا.. وهو ما تم فيه على الأرجح استثمار المعلومات التي حصلت عليها إيران خلال عملية استخباراتية تمت بنجاح خلال الأسبوع الذي سبق توقيت الضربة، حصلت من خلالها الجمهورية الإسلامية على آلاف الوثائق والمعلومات حول المشروع النووي الإسرائيلي، كما كشفت من خلال هذه العملية عن تورط الوكالة الذرية للطاقة النووية في تسريب معلومات عن المشروع النووي الإيراني لكل من أمريكا وإسرائيل.. كما واستعادت منظومة الدفاعات الجوية عافيتها بعد تشخيص الخلل واعتقال من تسبب في ذلك ليتم إسقاط عدد من المقاتلات الصهيونية، بما فيها درة المقاتلات الأمريكية F35 ليتم أسر طيارين للعدو، مع ردع الطيران الإسرائيلي الذي كان ينوي العربدة في الأجواء الإيرانية كما فعل في سوريا بعد سقوط النظام.
وفي الوقت الذي هرع فيه الصهاينة نحو الملاجئ خوفا من الصواريخ الإيرانية التي كانت تهطل كالمطر لتضرب أهدافها بدقة عالية، خرج الشعب الإيراني إلى الشوارع متوعدين بالانتقام حيث دعوا فيها القيادة إلى الرد الفوري الذي تم بالفعل، ليستمر اكتساح الشوارع إلى اليوم بين منتش بهذا الرد المتصاعد ومتوعد بالاستمرار في تأديب الكيان وداع إلى إزالته من الوجود عطفا على شعارات الثورة التي أسست لمعارك وجودية بين إيران وإسرائيل، حيث سيتم خلال هذه المواجهة أيضا استدعاء تاريخ عدد من الأحداث والرموز الدينية التي توجه الطرفين. فإسرائيل سمت عملياتها بالأسد الصاعد، وهي تسمية توراتية ذات طابع أسطوري، وردت بداية في سفر التكوين ثم تردد صداها في أسفار الأنبياء الكبار والصغار، عبر نصوص كثيرة مؤكدة الوهم القائل بأن العبرانيين (التلموديين) وحدهم، هم أبناء الرب وأحباؤه؟ وهو ماسخر منه القرآن في قوله تعالى: “وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ وَٱلنَّصَٰرَىٰ نَحْنُ أَبْنَٰٓؤُاْ ٱللَّهِ وَأَحِبَّٰٓؤُهُۥ ۚ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم ۖ بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ ۚ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ ۚ وَلِلَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ۖ وَإِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ”. أما إيران فقد رفعت شعار “يالثارات الحسين” وهو الشعار الذي رفعه الشيعة (أتباع العلويين) بدءا من المختار الثقفي، ضد النظام الأموي الذي تورط في قتل الإمام الحسين وأهل بيته وأصحابه (ع) في كربلاء، متوعدين إياه بالانتقام، ليتحول فيما بعد إلى نداء عابر للزمان يدعو إلى التآزر والعنفوان والاستعداد لتحمل الآلام من أجل نصرة أهل البيت(ع) والقضايا العادلة..
هكذا تصاعدت الهجمات من الطرفين، ليخيم القلق على حلفاء إسرائيل الغربيين، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة الأمريكية التي لازالت بالفعل لم تدخل الحرب بشكل رسمي، لكن ترامب لم يكف عن توعد إيران والضغط عليها لإيقاف الحرب والعودة إلى طاولة المفاوضات، دون الحديث عن الدعم العسكري المفتوح للكيان قبل هذه الحرب وبعدها. حيث بدأت الضربات الإيرانية المتصاعدة تهز ثقة إسرائيل بقدرتها على كسب الحرب لصالحها، ليتحرك اللوبي الصهيوني في أمريكا في محاولة لدفع ترامب إلى الالتحاق بهذه الحرب المستعرة من أجل إنقاذ الكيان من ورطته، في نفس الوقت الذي رفض فيه فريق آخر في مقدمتهم السيناتور بيرني ساندرز الذي وجه رسالة مباشرة إلى إدارة ترامب قائلا: “يجب ألا تنجرّ الولايات المتحدة عسكريًا أو ماليًا إلى حرب غير قانونية أخرى يشنها نتنياهو”.. محذرا من تداعيات هذه الحرب على اقتصاد الولايات المتحدة الأمريكية، حيث حمل نتنياهو مسؤولية الهجوم على إيران وإفشال المفاوضات التي كانت تجري بين الجمهورية الإسلامية وأمريكا. وهو ما أربك ترامب الذي لايزال عاجزا عن اتخاذ قرار حاسم بشأن مشاركة الولايات المتحدة الأمريكية في هذه الحرب، رغم تردد أنباء عن تحرك عدد من القطع العسكرية الضخمة نحو الشرق الأوسط مع صدور الأمر بالتحضير للهجوم على إيران في أي لحظة.
في المقابل، حذرت إيران أمريكا ترامب من الدخول في هذه الحرب متوعدة باستهداف مصالحها وقواعدها العسكرية في كل المنطقة مما قد يتطور إلى حرب إقليمية عنيفة حتما ستكون لها تداعيات خطيرة على الاقتصاد العالمي. خاصة بعد رصد تنسيق استخباراتي وعسكري بين إيران وحلفاءها من الروس والصينيين مع تردد بعض الأنباء عن دخول كل من باكستان وتركيا على الخط محذرين من استهداف إيران. وهو الأمر الذي قد يطيل أمد هذه الحرب الضروس التي يمني من خلالها الإسرائيلي والأمريكي نفسيهما بإسقاط النظام الإيراني الداعم للمقاومة في المنطقة، في حين يتخوف حلفاء الجمهورية الإسلامية من هذا لما له من خطورة على أمنهم القومي في المدى المتوسط والبعيد، مما وقع لإيران بالضبط بعد إسقاط النظام السوري الذي كان على علاته يشكل درعا للمقاومة وذراعا متقدمة لإيران لمواجهة التدخلات الأمريكية والتوسع الصهيوني في المنطقة عبر تمرير العتاد والسلاح والخبراء للمقاومة في لبنان وفلسطين خصوصا. حيث كان تدمير غزة ولبنان وإسقاط سوريا المقاومة إيذانا بضرب أسس الأمن القومي الإيراني، فكان استهداف قلب إيران مسألة وقت فقط بعد تحطيم أسوارها، وقد كان للضربات الصاروخية الموجعة التي لازال حلفاء الجمهورية الإسلامية باليمن ينفذونها في قلب الكيان بعد أن انسحبت أمريكا من الحرب معهم مرغمة بعد استهداف حاملات طائراتها بالبحر الأحمر ومنع سفنها من المرور بباب المندب، دور كبير في الدفع بالكيان لضرب رأس الأفعى كما يرددون بينهم وتحريض الأمريكيين على الالتحاق بهم في هذه الحرب قبل فوات الأوان، حيث يتهمون إيران بمد الحوثيين بتكنولوجيا الصواريخ الباليستية والفرط صوتية التي أحرجت قدرات الغرب العسكرية، كما يحذرون أمريكا والعالم من امتلاك الجمهورية الإسلامية للقنبلة النووية بعد أن صارت حسب التقارير والإشارات قاب قوسين أو أدنى من ذلك.
ختاما، وردا على بعض الطائفيين والمغرضين الذين يتمنون هزيمة إيران في هذه الحرب، رغم كل ما قدمته لجبهات إسناد غزة وما خسرته من نفوذها في المنطقة في سبيل ذلك، فإن هذه الهزيمة التي لا يتمناها كل مناضل حر شريف سوف تدخل المنطقة برمتها إلى الزمن الصهيوني على السجاد الأحمر، ولن يستطيع أحد مواجهة إسرائيل مستقبلا بعد فقدان توازن الردع الذي كانت ولحد الآن تمثله إيران في المنطقة رغم كل الخلافات المذهبية والسياسية القائمة مع بعض جيرانها، مما يمكن احتواءه في كل الأحوال بالتصالح والحوار كما حصل مع المملكة العربية السعودية، ولم لا التنسيق والتقارب الاستراتيجي كما انطلق مؤخرا مع مصر.
فعندما تجد إسرائيل نفسها مسيطرة على المنطقة، تصول وتجول كما تريد، فهي لن تحتاج بعد ذلك إلى اعتراف أحد أو تعاونه، لأنها ستأخذ ما تريد بدون إذن أحد. وهو ما فطن إليه عدد من المحللين والمفكرين (المفكر المصري محمد سليم العوا) والعلماء العقلاء في العالم العربي والكيانات السنية (الدكتور أحمد الريسوني، عضو مؤسس ورئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين حتى سنة 2022 )، والذين خرجت بياناتهم أخيرا أفرادا وجماعات تدين العدوان الإسرائيلي على إيران وتدعو إلى نصرة الجمهورية الإسلامية والوقوف معها في هذه الحرب، حيث جاء في رسالة من جماعة الإخوان المسلمين إلى المرشد الإيراني علي الخامنائي بأن عدو الأمة واحد، وهو العدو الإسرائيلي، وبأن التمسك بوحدة الأمة الإسلامية، وتجاوز آثار أخطاء السنوات الماضية بات السلاح الأول الذي يجب التمسك به في ظل الظروف الصعبة التي تحيط بالأمة. خاصة في ظل وقوف الغرب بأنظمته السياسية ومؤسساته الاقتصادية مع الكيان الصهيوني المحتل رغم همجيته وجرائمه التي تجاوز بها كل الحدود، وإن كانت شعوبهم تستنكر ذلك من باب الإنسانية التي أسقطها الصهاينة المتطرفون من قاموس هذا الكيان عمدا، للإجهاز على كل من يقف في مشروعهم التوراتي الأسطوري في المنطقة.

د. محمد أكديد
باحث في علم الاجتماع السياسي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى