وجهة نظر

حوكمة الفن في الفضاء العام : من يحمي الناشئة من عنف التطبيع مع الإنحطاط -مصطفى المانوزي

نحتاج إلى فتح نقاش نقدي وجوهري حول ازدواجية المعايير في التعامل مع التعبير الفني وحدود حرية التعبير، خاصة في الفضاءات العمومية المفتوحة، وتأثير هذا التعبير على الفئات الناشئة.

فمثلا الصورة ( رفقته ) تُظهر مغنيًا شابًا يرتدي لباسًا يحمل عبارة بالدارجة أو “فرانكو-دارجة” مكتوب عليها “صال غوت” (salle goutte)، وهي عبارة عامية وساقطة ضمنيًا، تُستخدم في بعض الأوساط بمعنى “النطفة المتسخة”، وتُعتبر مستفزة ثقافيًا وسيميائيًا حين تُرفع كهوية مسرحية في فضاء عام وتُعرض أمام جمهور متنوع الأعمار.

أولًا: رمزية الصورة وقراءة سيميولوجية أولية :

اللباس كتصريح: القميص لا يحمل فقط اسمًا، بل يشكّل بيانًا رمزيًا ينزع عن الجسد قدسيته أو حميميته، ويجعل من الابتذال هوية تجارية.

الساحة كفضاء عمومي: الغناء في ساحة “السويسي” أمام جمهور مفتوح ليس كالغناء في قاعة مغلقة، لأن الساحة تنتمي إلى المجال العمومي، وهي ملك جماعي يفترض أن يخضع لقيم مشتركة وأدنى درجات الاحترام المتبادل.

اللغة كأداة اختراق: استعمال الفرنسية-الدارجة في “صال غوت” لا يعكس فقط التهجين الثقافي، بل تسويق لغة الانحطاط في قوالب تبدو “كول” أو “متمردة”، مما يخلق تشويشًا هوياتيًا عند الناشئة.

ثانيًا: مفارقة “حرية التعبير” و”حماية الطفولة”

عندما يُعتقل شاب في طنجة لأنه يُغني بكلمات وُصفت بغير الأخلاقية أمام أطفال، يُبرر ذلك بضرورة حماية القاصرين من الانحراف أو التأثير السلبي.

لكن حين يُنظم مهرجان رسمي بملايين الدراهم وتُفتح منصاته لفنانين يُروجون لسلوكيات وهويات لفظية تشبه أو تتجاوز تلك التي اعتُقل بسببها غيره، يصبح الأمر تمييزًا مؤسساتيًا وتطبيعًا انتقائيًا مع الانحطاط حين يأتي من “المشهورين”.

ثالثًا: سؤال المسؤولية المؤسساتية

هل أصبحت الفنون في المغرب تمارس سلطتها الرمزية دون مساءلة مجتمعية؟

المدرسة تُحاسب على كل فشل تربوي، والأسرة تُتهم بالتقصير، لكن لا أحد يسائل المنصات الرسمية التي تموّل وتبث وتُشهر هذا النوع من التعبير.

هناك غياب لتقنين واضح للفضاءات العمومية حين يتعلق الأمر بالفن الموجه للجمهور، خصوصًا في ظل التفاوت في الأعمار، وعدم توفر بدائل ثقافية جذابة تحترم الذوق والكرامة.

رابعًا: نحو مقاربة توقعية تربوية وثقافية

ما يقع يُحتِّم:

1. إعادة التفكير في سياسة المهرجانات: من حيث المضامين، الفئات المستهدفة، وشروط الولوج.

2. إقرار ضوابط واضحة للتعبير الفني في الفضاء العام تراعي الكرامة الإنسانية وتجنّب تطبيع الرداءة.

3. فتح نقاش عمومي حول الذوق العام وحرية التعبير: ليس بمنطق المنع أو الرقابة، ولكن بمنطق الحوكمة الثقافية التي توازن بين حرية الفنان وحق الطفل والمواطن في فضاء نظيف لغويًا ورمزيًا.

4. توجيه الدعم العمومي نحو مشاريع فنية مسؤولة تحترم الذكاء المجتمعي وتخاطب اليافعين بلغة حرة ولكن غير منحطة.

خلاصة:

ما بين مغنٍ مشهور يصدّر الانحطاط على منصة رسمية، وشابٍ مغمور يُعتقل لأنه فعل الشيء نفسه في الشارع، يظهر أن الخطر ليس في الأغنية فقط، بل في من يملك شرعية البث واحتكار المعنى. نحن في حاجة ماسة إلى بناء ضمير ثقافي جمعي يحمي الأطفال من التشييء، والفن من التسليع، والمجتمع من التطبيع مع العنف الرمزي المقنّع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى