من الشائع أن يعتبر الناس بلوغ سن الثلاثين مؤشرا على انتصاف العمر، طبعا ليست هناك ضمانات لبلوغ المرء الستين، ولا الأربعين حتى، لكنها مطارحات رقمية يحلو للإنسان أن يتخذها مطية في وجه تفلت الزمن ونسبيته وغموضه.
بلغتُ الثلاثين، عمر التخلي عن الآمال التي ينسجها المرء في عشرينياته، إنه زمن اللأخطاء، ومحطةٌ لا تقبل القطارات المتأخرة أو خاطئة الوجهة، في الثلاثين كتب درويش أولى دواوينه، وسارتر أولى مسرحياته، وشرع تولستوي في كتابة الحرب والسلم. إنها لحظة فارقة، حيث يدرك المرء، ما وجد لأجله، الثلاثون مثل الطرق السريعة بأمريكا، طرق ذات اتجاه واحد، إذا أخطأت الوجهة، ستنفق حتما، وقتا وجهدا مضنين لتصحيح الوضع.
الثلاثون، تجيء بالقطع مع التدفق والسيلان، ووقف نزيف المشاعر والأفكار والاختيارات والتجارب، إنها لحظة يجب أن تكون فيها الأشياء جميعها لزجة وعالية التركيز، تماما مثل القشدة الطرية.
إنه زمن الإصاخة للصوت الداخلي الهادئ، وإخراس ضجيج الخارج، وإملاءاته الفضفاضة الفوضوية، وغض الطرف عن مواضاعات المجتمع والأعراف والناس. إن الثلاثين إذا استعرنا منها مجاز انتصاف العمر، فيجب استعارة رفض الأنصاف، نصف عمل، أو نصف صداقات، أو نصف حب، أو نصف معتقد. إنه وقت الراديكالية، أن يكون المرء أو لا يكون، لا مكان للتردد، ولا فسحة للتلكؤ.
الثلاثون، في النهاية مجرد رقم، لكنها رمزية، إخطار، لوحة تنبيه حمراء بأن السرعة أضحت محددة، وأن المنعرجات ستصبح حادة، بأن الرؤية قد تصبح ضبابية، أزمة منتصف العمر، زيادة مطردة في الوزن وفي الضجر، أزمات صحية، وجودية، انتقالات إلى مستويات أعلى في التعاطي مع الذات والآخر والحياة، ارتفاع منسوب اللامبالاة بالعالم، والإصابة بداء التعب المزمن، من كل الأثقال التي توزعت الإنسان دهرا، وفطن إلى أن الطريق اقترب من نهايته، ولم يعد بحاجة لكل هذا الزاد.
الثلاثيني هو متصوف بشكل أو بآخر، فالثلاثون، وإن حلت بكل هذه الحمولة الرمزية الثقيلة، فإنها تحل بوعود الحقيقة، وأفول حقب الزيف والمثالية، تحل بأفكار أكثر يقينا وصفاء، وبفرص ربما ليست براقة، لكنها تشبهنا، تشرع أبوابا مواربة إلى ثلاثينيات مثل التي خبرها الشابي والسياب وآخرون وأخريات، ثلاثينيات، متمنيات بالحد الأدنى من العيش، وبالحد الأقصى من الحياة.