وجهة نظر

فلسطين بين الرباط والجزائر: مفارقة التعبير الشعبي في ظل البروباغندا الرسمية

نجيب خياط
في الوقت الذي تشهد فيه شوارع المغرب مئات التظاهرات نصرةً لغزة ورفضًا للتطبيع مع إسرائيل، تبقى شوارع الجزائر ساكنة، لا أثر فيها لأي خروج جماهيري داعم للفلسطينيين، رغم أن الخطاب الرسمي الجزائري يقدّم البلاد كحصن منيع ضد التطبيع وكممثل أوحد للثوابت القومية. المفارقة هنا لافتة: البلد الذي أقام علاقات رسمية مع إسرائيل يشهد دينامية احتجاجية نابضة، بينما البلد الذي يرفع شعار “فلسطين قضية وطنية مقدسة” لا يسمح حتى بصدى شعبي متواضع.
هذا التناقض لا يمكن فهمه فقط من زاوية السياسات الخارجية أو المواقف الرسمية، بل يتطلب تحليلًا أعمق للبنية النفسية والسياسية التي تحكم العلاقة بين السلطة والشعب، خاصة في الجزائر. فالصمت الشعبي الجزائري إزاء معاناة الفلسطينيين، في لحظة تاريخية حرجة، يبدو نتاجًا لنمط مغلق من البروباغندا السياسية – بروباغندا عسكرية مغلقة صاغت لسنوات طويلة ما يمكن تسميته بـ”الأنا الجماعية المتضخمة”، وهي أنا تعيش داخل وهم الاستثناء التاريخي والبطولة المطلقة، وتُقصي كل أشكال التعبير غير المتطابقة مع الرواية الرسمية.
ضمن هذه البنية الدعائية، تُحتكر القضية الفلسطينية من قبل النظام وتُختزل إلى رمز أيديولوجي يُمنع الاقتراب منه نقدًا أو دعمًا خارج الإطار المؤطر مسبقًا. يصبح التظاهر الشعبي، حتى إن كان داعمًا لغزة، فعلًا مريبًا، ومصدر تهديد محتمل للنظام الذي لا يثق سوى في صوته هو. وهكذا، تتحول فلسطين من قضية تحرر إنساني إلى شعار سياسي داخلي، ومن وجدان شعبي إلى امتداد للشرعية الرسمية.
في المقابل، ورغم كل ما يُقال عن النظام المغربي وعلاقاته مع إسرائيل، فإن المجال العام المغربي يُظهر قدرًا من الانفتاح النسبي، يسمح بخروج جماهيري واسع يرفض هذه العلاقات ويناصر الفلسطينيين، أحيانًا في تناقض صريح مع توجهات الدولة الرسمية. هذا الهامش، وإن كان محكومًا بقيود، يعكس مفارقة ديمقراطية: حيث النظام الأقل شعاراتية يتيح للمجتمع أن يقول “لا”، بينما النظام الذي يصرخ باسم فلسطين يصادر حتى الحق في أن نهمس بها في الشارع.
إن سكوت الشارع الجزائري في هذه اللحظة ليس علامة على عدم الاكتراث، بل نتيجة تراكمات طويلة من العزل الرمزي، حيث تم تنمية حس وطني يرى في ذاته كمالًا أخلاقيًا لا يحتاج إلى المراجعة، بل ولا حتى إلى الفعل. وحين يُطلب من الجماهير أن تصدّق أنها دائمًا على صواب، فإنها – في نهاية المطاف – تتوقف عن الفعل، وتكتفي بالتكرار الآلي للشعار.
وهكذا، تتحول القضية الفلسطينية من اختبار للتضامن الإنساني إلى مرآة تكشف ما لا يقال عن الفرق بين نظام يحتكر المعنى وآخر يترك المجال للمساءلة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى