إذا كنت تظن أن التعليم باهظ الثمن، فجرِّب الجهل! هذه مقولة دارجة للمحامي والأستاذ الأمريكي ديريك بوك، وقد جرت مجرى الأمثال. وسياق استدعائها، طبعًا، هو بعض أشرطة الفيديو التي وقعت عليها عيناي من بعض المدن المغربية بمناسبة عاشوراء، حيث تحوّلت الشوارع إلى ساحة لأعمال الشغب ومواجهات دامية مع أفراد القوات العمومية، من طرف مراهقين وشباب منتشين بأنواع مختلفة من المخدرات، في مشهد مأساوي يصف بدقة حالة الغوغائية والابتذال والخوائية التي وصل إليها الشباب.
إن هذه الأحداث ليست معزولة؛ فقد سبقتها قرائن كثيرة، من مشاهد مؤسفة، من مهرجان موازين قبل أيام مثلا، سكر وعربدة وقلة ذوق وتصريحات تنم عن رداءة فكرية، ثم شغب الملاعب الذي ما يزال تقطف رؤوس هؤلاء التائهين المساكين في المواجهات بالسواطير فيما بينهم أو في حوادث السير، دون احتساب أعداد الذين يدخلون السجن لنفس الدواعي، وكذلك مشاهد التحرش الجنسي المتوالية، وأيضا أشرطة السياقات الاستعراضية بالدراجات النارية، التي تودي بأرواحهم وأرواح غيرهم.
هل يجب أن نلوم هؤلاء الشباب فقط؟ بالطبع لا، وألف لا! معلوم أن السوسيولوجي إميل دوركايم وضع محددات لتصنيف سلوكٍ على أنه ظاهرة اجتماعية، وأوجزها في:
الخارجية والإلزامية:
الظواهر الاجتماعية ليست مجرد انعكاسات للرغبات الفردية، بل هي حقائق خارجية عن الفرد، تفرض نفسها عليه وتلزمه باتباعها.
العمومية:
الظواهر الاجتماعية تعمّ المجتمع بأكمله، وليست مقتصرة على فئة أو مجموعة معينة من الأفراد.
الاستقلالية:
للظواهر الاجتماعية وجود مستقل عن الأفراد، فهي ليست مجرد مجموع أفعالهم وسلوكياتهم الفردية، بل هي كيانات اجتماعية ذات وجود خاص بها.
التأثير والقهر:
الظواهر الاجتماعية لها تأثير وقوة قهرية على الأفراد، حيث تحدد سلوكهم وتوجه أفعالهم.
من الجلي أن تلك الخصائص تنطبق على السلوك العنيف والطائش للشباب، وهي ظواهر تُعدّ حصيلة سياسات الدولة المتذبذبة منذ قرون، في التعليم أوّلًا؛ حيث تمّ إفراغ المدرسة العمومية من جوهرها، ألا وهو التربية على القيم، وتم التركيز على شحن البرنامج بمكوّنات ووحدات تبتعد عن الخصوصية الاجتماعية والقيمية للمغاربة، مما خلّف غربة هوياتية لدى أطفالنا. وكان البديل المتوفّر هو العنف والمخدرات والانحلال، الذي فتحوا عليه أعينهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي ومختلف وسائط الفيديو والأفلام ومنصات الألعاب الإلكترونية.
أما ثانيا فقد تم تفكيك الجامعة التي يفترض أن تكون صمام الأمان، عبر توفير تكوينات في المستوى للشباب، وتأطيرهم سياسيا ومهنيا واجتماعيا من أجل تجهيزهم لسوق الشغل، والإسهام في التنمية ومسار البحث العلمي والابتكار، ألا أن الجامعة أضحت سوقا للبيع والشراء، والابتزاز والاسترزاق، أساتذة جامعيون دون المستوى حصلوا على المناصب بطرق مشبوهة، ويوزعون الشهادات، لا على أساس الكفاءة، بل على أساس الرشاوى والزبونية والتملق، حتى صار الطلبة لبعض أساتذتهم، كالمريدين للشيخ.
من جهة أخرى، دفعت، وما تزال، الظروف الاقتصادية المأزومة الأسر والآباء إلى الانشغال عن ممارسة دور الرقابة والمتابعة والتوجيه والتربية، وانخرطوا في سعي سيزيفي نحو الخبز، ولم تعد التربية من أولويات الوالدين، تحت متذرعين بأن العمل المضني لتوفير حاجيات البيوت والأسر المتزايدة، تحت وطأة توجيه إعلامي استهلاكي شرس، لا يترك من الجهد ولا الوقت ما يتبلغون به مهمة التربية، التي لا تقلُّ ثقلًا ولا جسامة.
يُقال إن من يفتح باب مدرسة يغلق باب سجن، لكن يبدو أننا بصدد إغلاق أبواب المدارس وإشراع أبواب السجون لأجيال اتجهت إلى المخدرات والإجرام، للتنفيس عن ضيق الأفق، وضياع الوجهة، وغياب البدائل.
لا بد لنا من احتواء الوضع، عبر دراسات اجتماعية معمّقة في أسباب هذه الظواهر، ثم في طرق تجفيف منابعها، وإلا فإن مستقبل البلاد يبدو قاتمًا، ما دمنا جميعًا فوق فوهة بركان قد يفور في أية لحظة.