وجهة نظر

مسيرة آيت بوكماز: الفاعل السياسي ودوره في تأطير الجماهير الشعبية بقلم الأستاذ: حسن تزوضى

    تمنحنا مسيرة آيت بوكماز الاحتجاجية مشهداً غنياً بالدلالات، يتجاوز كونه مجرد تحرك جماهيري من أجل مطالب اجتماعية عادلة إلى كونه حدث سياسي مكتمل الأركان، يحتمل قراءات وينطوي  على دلالات وابعاد، دروس وعبر، وأنا هنا سأحاول أن اقرأ الحدث في أبعاده السياسية من خلال تسليط الضوء على دور الفاعل السياسي في تأطير حركية الجماهير ، فما شهدناه من بروز لشخصية رئيس الجماعة،  وتزعمه لاحتجاجات السكان، يفتح افقا  لإعادة النظر في العلاقة المتأزمة بين المواطني والفاعل السياسي، والتفكير في الامكانيات والأدوار الاخرى للفاعل السياسي، كما يعيد هذا الحدث  إلى الواجهة نقاشاً حيوياً حول موقع وحضور السياسة في المجتمع، وشروط استعادة وظائفها التأطيرية والتمثيلية في زمن التصدع الحزبي والانحراف المؤسسي.

تندرج  هذه المسيرة التي قادها رئيس جماعة آيت بوكماز شخصيا، في مسار مغاير للواق المألوف الذي يضع بين الاحتجاج والسياسة جداراً عازلاً، فقد تصرف الرئيس  -الفاعل السياسي-  ليس بوصفه رجل سلطة، ولا باعتباره ناطقاً باسم المؤسسات العتيقة والعميقة ، بل كابن للمنطقة حاملٍ لمطالبها، مشاركٍ في غليانها الاجتماعي، وقادرٍ على تحويل الغضب إلى فعل نضالي مؤطر، هذا التموقع يخرج السياسة من قوقعتها الإدارية، ويعيدها إلى وظيفتها الأصلية: تمثيل الناس، لا تمثيل الدولة أمام الناس.

يتمثل البُعد العميق لهذا الفعل السياسي في كونه يكسر الصورة النمطية للمنتخب المحلي الذي يكتفي بتسيير الملفات الإدارية، ويتهرب من كل ما قد يثير حفيظة السلطة أو يُظهره في صورة المعارض، وهكذا فقد تحول رئيس جماعة آيت بوكماز من مجرد منتخب إداري إلى فاعل ميداني، مؤطر للمواطنين المحتجين، ومتفاوض باسم الساكنة، بل وممثل فعلي لهم أمام السلطة، دون خوف من التصنيف أو العزل السياسي. هذا التحول، رغم بساطته الظاهرية، يعكس تصدعًا في النموذج الكلاسيكي للتمثيلية، ويؤشر على إمكانية تجديدها من القاعدة، لا من المركز.

في هذا السياق، لا يُمكن فهم فعل التأطير السياسي على أنه مجرد “تنظيم تقني” للاحتجاجات، بل ينبغي اعتباره ممارسة سياسية كاملة، تستدعي رصيداً من الشرعية، والقدرة على اتخاذ المواقف، وتحمل التبعات، فالتأطير الناجع لا يقتصر على رفع الشعارات أو ترتيب الصفوف، بل يقوم على توجيه الحراك نحو أفق عقلاني، يُوازن بين الضغط الشعبي ومتطلبات الحوار، ويصوغ المطالب بلغة قابلة للتفاوض، دون التخلي عن الروح الاحتجاجية التي تغذي الفعل السياسي الحقيقي.

يتطلب هذا الدور من الفاعل السياسي امتلاك حد أدنى من الاستقلالية عن السلطة، وقدرة على التموقع داخل المجتمع بدل الاصطفاف فوقه أو خارجه. فالاحتجاجات المؤطرة ليست طارئة في الأنظمة الديمقراطية، بل تشكل جزءاً من حيوية المجتمع، وأداةً لتصحيح السياسات العمومية، وتوسيع هامش المشاركة. ووجود فاعلين سياسيين قادرين على لعب هذا الدور يُغني الحقل السياسي، ويُعزز التوازن بين الدولة والمجتمع، بدل أن يجعل هذا الأخير بلا صوت، أو أن يدفعه نحو التعبير العنيف وغير المؤطر.

إن التراجع المستمر لأدوار الأحزاب السياسية في المغرب، نتيجة تبعيتها للسلطة وتورطها في شبكات الولاء والمصالح، جعل الساحة السياسية تفتقر إلى الوسائط التي يمكنها تأطير الغضب الشعبي وتوجيهه. وفي ظل هذا الفراغ، يصبح الفاعل المحلي المستقل، الذي يتمتع بشرعية نضالية وميدانية، هو الأمل المتبقي في استعادة السياسة لمعناها الحيوي. وهذا ما أكدته تجربة آيت بوكماز: لا تزال هناك إمكانيات للتجديد من الأسفل، بعيداً عن المراكز الحزبية التي تحولت في كثير من الأحيان إلى غرف مغلقة منفصلة عن نبض المجتمع.

لكن هذا التحول لا يمكن أن يصير قاعدة لممارسة السياسية، إلا إذا استوعبت الدولة العميقة الرسالة السياسية التي تحملها مثل هذه المسيرات، فلا يمكن بناء استقرار حقيقي على أساس تحريف الفعل الساسي وتهميش الفاعل السياسي واحتواءه، وتحويله  إلى أداة لتزيين الواجهة . بل يجب الاعتراف بأن تجديد الحقل السياسي لا يمر عبر التحكم، بل عبر إطلاق دينامية ديمقراطية حقيقية، يتم فيها تمكين الفاعلين من صلاحيات واضحة، وربطها بمحاسبة فعلية، وتحفيزهم على تحمل أدوارهم كاملة في التأطير والتمثيل.

في المقابل، يؤدي استمرار منطق الضبط السلطوي إلى المزيد من العزوف الذي يقود إلى الانفجار،فحين تُقصى الأحزاب من دورها الحيوي، ويُختزل الفعل السياسي في الولاء، يتم تدمير شروط الوساطة المؤسساتية، وتُدفع الجماهير إلى الاحتجاج العفوي غير المؤطر، بما يحمله ذلك من مخاطر على الاستقرار والسلم الاجتماعي. وفي غياب الفاعل السياسي الحقيقي، يتحول المجال العام إلى ساحة اصطدام ، بدل أن يكون فضاء للنقاش العمومي والتفاوض الاجتماعي.

لا يتعلق الأمر هنا بمطالبة الدولة بإعادة الاعتبار للأحزاب كغاية في ذاتها، بل بإرساء قواعد جديدة للحياة السياسية، تجعل من التمثيلية والتأطير آليات فعالة لإدارة التوترات الاجتماعية، فلا يمكن لأي نظام سياسي أن يستمر في تجاهل الدور التأطيري للفاعل السياسي . فإما أن تُعاد السياسة إلى المجتمع عبر فاعلين شجعان، ملتزمين ومبدئيين، وإما أن يُعاد المجتمع إلى الشارع دون بوصلة، في علاقة قطيعة مع المؤسسات.

تُعلمنا تجربة آيت بوكماز أن إمكانية استعادة السياسة من خلال الفعل الميداني ما تزال قائمة، وأن الفاعل السياسي، إذا ما تحرر من منطق الخوف والمصالح الضيقة، قادر على أن يلعب دوراً جوهرياً في تأطير الجماهير، وتجنيب البلاد انفجارات اجتماعية لا يمكن ضبطها، هذه هي الرسالة الأعمق التي ينبغي على الدولة أن تتلقفها ً: لا أمن بدون عدالة، ولا استقرار بدون مشاركة سياسية فعلية، ولا مستقبل بدون سياسة تحيا في الشارع.

تؤكد مسيرة آيت بوكماز بما لا يدع مجالًا للشك أن الفاعل السياسي المحلي يمكن أن يشكل حلقة وصل حقيقية بين الدولة والمجتمع، شريطة توفر إرادة سياسية حقيقية تُمكّنه من أداء أدواره التأطيرية والتمثيلية. هذا النموذج من الاحتجاج المؤطر، حين يقوده منتخب يحظى بشرعية مجتمعية، يُثبت أن السياسة لا تزال قادرة على إعادة إنتاج ذاتها من خارج دوائر الهيمنة والاصطفاف، ومن داخل واقع اجتماعي يفرض أشكالًا جديدة من الوساطة والمرافعة.

إن  هذه التجربة تثبت أن إعادة الثقة في السياسة تمر عبر استعادة الفاعل السياسي لجرأته الأخلاقية وفعاليته الميدانية، بعيدًا عن التواطؤ مع الإدارة أو الانكماش داخل المؤسسات. كما تبرز أن التأطير لا يُضعف الاحتجاج، بل يُقويه، ويوجه طاقته نحو التغيير البناء. لذلك، فإن الدولة، إذا أرادت فعلاً استباق الأزمات الاجتماعية، مطالبة بأن تتخلى عن مقاربات الضبط والتحكم، وأن تنفتح على ديناميات مجتمعية حية، تجد في الفاعل السياسي الحقيقي شريكًا لا خصمًا.

وتأسيسًا على ما سبق إن تجاوز أزمة الفعل والفاعل السياسي اليوم في المغرب يقتضي :

– إعادة النظر في أدوار الأحزاب السياسية عبر تفعيل استقلاليتها عن السلطة التنفيذية، وتمكينها من أداء وظيفتها التأطيرية والتمثيلية دون تدخلات فوقية.

– تمكين المنتخبين المحليين من صلاحيات فعلية وربطها بمساءلة ديمقراطية واضحة، بما يُحفّزهم على تحمل مسؤولياتهم السياسية والاجتماعية.

– تشجيع الفعل السياسي الميداني القائم على الإنصات والمرافعة، عوض الاكتفاء بالدور الإداري أو التقني.

– فتح المجال أمام صيغ جديدة للتمثيلية تنطلق من القاعدة المحلية، وتستجيب لخصوصيات كل مجال، بعيدًا عن النماذج الجاهزة الفوقية.

– ترسيخ ثقافة الاعتراف بالاحتجاج كحق ديمقراطي وشكل مشروع من أشكال التعبير السياسي، لا كتهديد أمني يجب احتواؤه أو تهميشه.

في الأخير، إن بناء حياة سياسية سليمة لا يمر فقط عبر الإصلاحات القانونية، بل يتطلب إرادة جماعية تعيد للسياسة معناها الجوهري، وللفاعل السياسي موقعه الطبيعي إلى جانب المواطنين. تلك هي الرسالة التي حملتها مسيرة آيت بوكماز، وتلك هي الدعوة الصريحة إلى إحياء الوساطة السياسية كمقدمة لبناء مغرب أكثر عدالة وفعالية وديمقراطية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى