حين تتوقف أصوات القذائف، وتخفت صرخات الأطفال تحت الأنقاض، وتنزاح الكاميرات عن الركام… ماذا يتبقى؟ يتبقى سؤال واحد يتردد صداه في الفراغ: من يمتلك المشروع؟
لقد اعتدنا في كل حرب أن نحتج. أن نخرج إلى الشارع، نصرخ، نرفع الشعارات، نذرف الدموع. نحمل القضية في قلوبنا كما نحملها على اللافتات. لكن، حين تضع الحرب أوزارها، غالبًا ما نعود إلى صمتنا. نُعيد القضايا الكبرى إلى رفوف التاريخ المؤجل. نعود أفرادًا، بلا مشروع، بلا أفق سياسي، بلا أدوات.
المؤلم في هذا السياق أن الاحتجاج بلا مشروع لا يراكم قوة. وأن التعاطف الجماهيري، مهما بلغ عمقه واتساعه، يظل طاقة مهدورة إذا لم يُترجم إلى فعل منظم، مستدام، مؤثر.
فلسطين لم تكن يومًا قضية تخص الفلسطينيين وحدهم. كانت حجر زاوية في كل المشاريع الكبرى في منطقتنا: القومية العربية، والأمة الإسلامية، واليسار الأممي. لكنها تحولت تدريجًا إلى شعار يجمع، لا مشروع يُبنى عليه. انقسمت الشعوب حول المرجعيات، وتراجع الحلم المشترك، فيما واصل الغرب بناء مشروعه الكوني بأبعاده السياسية والعسكرية والتكنولوجية والثقافية.
مشكلتنا أننا لا نمتلك مشروعًا بعد الحرب. لا نمتلك خطة لما بعد الغضب، ولا تصورًا للعالم الذي نريد أن نكون جزءًا من صناعته. أما العالم الآخر –الذي نظنه ظالمًا– فهو لا يكتفي بإطلاق القنابل، بل يملك رؤية، ومؤسسات، وتحالفات، واستراتيجيات بعيدة المدى.
اليوم، نشهد عدوانًا بشعًا. لكننا أيضًا نشهد يقظة ضمير عالمي. الملايين تتظاهر من ماليزيا إلى الأرجنتين، من إسبانيا إلى جنوب إفريقيا. أصوات حرة تدين الاحتلال والقتل والتواطؤ. ولكن، هل هذه الأصوات تملك مشروعًا بديلًا؟ هل المواطن الإسباني أو الماليزي، الذي يهتف لفلسطين، يملك تصورًا واضحًا لما يجب أن يكون عليه العالم بعد الحرب؟
ما لم نتحول إلى فاعلين سياسيين بأفق استراتيجي، سنبقى نتفاعل مع المآسي بردود فعل وجدانية فقط. وسنكرر سؤالنا في كل حرب: لماذا لا يتغير شيء؟ الجواب: لأننا لم نبنِ شيئًا لنغير به شيئًا.
حين تنتهي الحرب، ويعود العالم إلى “طبيعته” القاسية، سيكون الامتحان الحقيقي: هل نملك نحن مشروعًا يعيد التوازن للعالم؟ أم أننا نكتفي بأن نكون صوتًا في مظاهرة… ثم ننسى؟