أحمد رباص – تنوير
دين الفن
نتبنى أولا ترجمة عنوان القسم (ب)، « Die Kunst-Religion » ب”دين الفن” (la religion de l’art)، وهي الترجمة التي اختارها برنارد بورجوا، وكذلك جان بيير لوفيفر، بدلاً من ترجمة “الدين الجمالي”، التي تبناها جان هيبوليت. بالفعل، يُشير لوفيفر إلى أن وجود شرطة نادرة في عنوان القسم بين كلمات مكتوبة بالألمانية (شرطة سوف تختفي لاحقا من النص) يبقى ذا دلالة، إذ يُضيف “إلى وظيفة مُحَدِّد للمصطلح الأول حالة شبه تكافؤ مع المُحَدَّدٍ”، لدرجة أنه “يكاد يكون من الممكن ترجمته بـ”الدين-الفن'”. كما نُذكر أن مصطلح “الجمالي” بالنسبة لهيجل غير كافٍ لوصف مشروعه، لأن معناه الفلسفي لا يتعلق بفحص الأعمال الفنية، بل بعلم الأيسثيتا أو الأشياء الحسية المُدرَكة. وهو يحدد في محاضراته أن “الصيغة التي تناسب علمنا بدقة هي “فلسفة الفن”، وبشكل أكثر دقة “فلسفة الفن الجميل”.
يبدأ النص بتلخيصٍ مُعقّدٍ للقسم بأكمله، مُقدّما التقدم الذي أخرزه هذا الدين الفني مقارنةً بالدين الطبيعي. يتكوّن هذا القسم (ب) من ثلاث نقاط: “العمل الفني المُجرّد”، و”العمل الفني الحي”، و”العمل الفني الروحي”. تُضيف بعض الترجمات أقساما فرعية غير واردة في النص الأصلي. تجدر الإشارة هنا إلى أن الديانات الطبيعية تُناقض فقط الديانات اليونانية والرومانية القديمة، وخاصةً اليونانية، بينما في نصوص أخرى، مثل كتابات الشباب، تتميّز ديانات الطبيعة عن ديانات “الذاتية الحرة”، والتي تختلف اختلافا كبيرا عن بعضها البعض.
من جهة، يتعلق الأمر مجددا بالديانة اليونانية، المفهومة على أنها ديانة تسعى بشرف إلى تحقيق الوحدة المباشرة بين الإلهي والإنساني، ومن جهة أخرى، يتعلق الأمر بالديانة اليهودية، “ديانة المتعالي” التي تسحق الروح البشرية بعظمة إلهٍ بلا صورةٍ مرئية ولكنه مع ذلك روح. وهكذا، يعارض هيجل في كتابه “روح المسيحية” (1798-179) ديانة الجمال باليهودية: ديانة يكون فيها المبدأ الإلهي محايثا، وتكون فيها المعطيات الحسية مشبعة بالروحانية، وديانة الفهم، للتقسيم بين المبدأ الإلهي (المهيمن، الحقيقي، المطلق، اللانهائي) والطبيعة البشرية (المهيمن عليها، الظاهرة، النسبية، المحدودة). في هذا القسم من كتاب “الفينومينولوجيا”، يلتزم بديانة الجمال، اليونانية بشكل رئيسي، التي تُؤله الشخص البشري، والتي هي ديانة سعيدة ومكتفية ذاتيا.
ملاحظتنا الثانية تتعلق بالعلاقة بين الفن والدين، فرغم مناقشة الفن في العديد من نصوص هيجل الأخرى، إلا أن طريقة عرض علاقته بالدين قد تنوعت. في كتاب “الفينومينولوجيا” ، يُقارب الفن كلحظة دينية، لذا لا يبدو في هذا النص أنه بحد ذاته تأثير واعي للروح المطلقة. أما في “الموسوعة”، فيظهر الفن، في القسم الأخير “الروح المطلقة”، قبل الدين والفلسفة مباشرةً، كأسلوب واعي للتعبير عن الإلهي من خلال الحدس الحسي.
جميع هذه العناصر الثلاثة تُضفي على الروح المطلقة وجودا-هنا. في الموسوعة، يُشكّل الفن (الفقرات ٥٥٦-٥٦٣) لحظةً سابقةً عن لحظة دين الوحي (الفقرات ٥٦٤-٥٧١) – إذ يبدو الفن والدين لحظتين مُتميزتين للروح المُطلقة – بينما تُقدّم لنا “الفينومينولوجيا” الفن كلحظة دينية، بحيث تكون فينومينولوجيا الدين في الوقت نفسه فينومينولوجيا للفن. ومع ذلك، فإن هذا الوضع الفينومينولوجي للفن كلحظة وسطى للدين لا يوجد نفسه متناقضا مع تطورات لاحقة على الفن.
في الواقع، تشهد الموسوعة أيضا على الصلة بين اللحظة الفنية للروح، دين، وبين الروح الأخلاقية التي تُحققهما: الفن والدين رمزان للروح المطلقة، لكن التقسيم الحقيقي يمر بين “فن الجمال” المرتبط بالدين المتضامن معه، و”الدين الحقيقي” (الدين الظاهر): “فن الجمال (باعتباره دينه المميز) له مستقبله في الدين الحقيقي” ( الموسوعة، الجزء الثالث، الفقرة 563، ص 350). هناك مسيرة جدلية تمتد من الفن إلى الدين، ومن الدين إلى الفلسفة، بحيث يكون الدين حقيقة الفن، والفلسفة حقيقة الدين. في هذا الإطار، يكون الفن، في علاقته بالدين، لحظة الوجود؛ كل عمل فني ينتج مكتفيل بذاته ومستقلا، شاهدا على روح فاعلة، تتكشف من خلال الدين، لحظة الجوهر. سيُعبّر الدين عن المطلق وفقا للتمثل ومن خلال التمثلات، وإذا كان التمثل أسمى من الحدس البسيط، فستتغلب عليه الفلسفة بفضل الفكرة. لكن هذا التدرج نفسه من الوجود إلى الفكرة عبر الجوهر – من الفن إلى الفلسفة عبر الدين – نجده في الدين نفسه: دين مباشر، دين الوسائل والعلاقات، دين مطلق. يقدم الفصل السابع فينومينولوجيا الدين أو صيرورة الدين، صيرورة روح التي تُدرك ذاتها كروح، وتملك هذه صيرورة الروح الدينية لحظة وسيطة، هي لحظة دين الفن.
(يتبع)