افتتاحية

مستقبل الزاوية البودشيشية: بين “العِفّة” العُرفية واندفاع جيلٍ صاعد

*عزيز الحنبلي -تنوير

الزاوية القادرية البودشيشية إحدى أبرز الطرق الصوفية في المغرب، تتخذ من قرية مداغ بإقليم بركان مركزًا لها. تنتمي إلى السلسلة القادرية المنسوبة للإمام عبد القادر الجيلاني، واشتد إشعاعها في القرن العشرين مع شيوخها من آل بودشيش، مع تركيزٍ على الذكر والتربية الروحية وتزكية النفس. وتشتهر بتنظيم مواسم وملتقيات للذكر والدرس الصوفي، وبخطابٍ قيمي يؤكد المحبة والسلم وخدمة المجتمع، ما منحها حضورًا وطنيًا ودوليًا متزايدًا وفروعًا داخل المغرب وخارجه.

 نشأت الزاوية القادرية البودشيشية وتبلورت هويتها التربوية بمداغ، ببروز عدد من الشيوخ المؤسِّسين الذين تعاقبوا على حمل السند القادري وتجديده: فأولهم سيدي المختار بن محيي الدين (1853–1914)، الذي تلقّى عنه ابنُ عمّه سيدي أبو مدين بن المنوَّر (1873–1955) علوم الطريقة، وهو الذي نقلها — وفق المصادر — من طور “التبرّك” إلى منهج التربية والسلوك المنظّم. وبعد وفاة أبي مدين سنة 1955، تولّى الإرشاد الحاجّ العبّاس بن سيدي المختار (1890–1972) بوصفه وريث سره، قبل أن تؤول المشيخة — بوصية مكتوبة — إلى ابنه سيدي حمزة (1922–2017) الذي جدّد أذكار الطريقة ووسّع إشعاعها داخل المغرب وخارجه.

مؤخرا ،منذ إصابة الشيخ جمال القادري بالوعكة الصحية وإدخاله المستشفى العسكري بالرباط، تفاقمت الشائعات واحتدت الخلافات بين بعض المريدين وعلى منصّات التواصل، حتى بلغت حدّ الطعن في “الوصية الروحية” واتهام منير القادري بالسعي لفرض نفسه خليفة قبل وفاة والده. وبلغ التوتّر ذروته يوم الجنازة، التي غاب عنها الحضور الرسمي الوازن واقتصر تمثيل الدولة فيها على عامل الإقليم، في مفارقة لافتة مع جنازة الشيخ حمزة عام 2017 التي شهدت مشاركة وزراء ومستشارين وشخصيات بارزة.

بعد الازمة الداخلية التي نتجت عن اعلان منير القادري خليفة ، يوم الثلاثاء 12 غشت الجاري يتراجع و يعلن عن تنازله عن مشيخة الطريقة القادرية البودشيشية لأخيه معاذ القادري بودشيش مع تشديد على أن المشيخة “تكليف لا تشريف”، وأن الإخلاص هو ميزانها.

ودعا منير جميع المريدين إلى الالتفاف حول أخيه معاذ، و”إظهار الأدب وحسن الظن به’، مُنوها بأهمية التزام الطريقة بمبادئها الأساسية من “صفاء القصد، وصحة التوجه، وخدمة العباد والبلاد”.

كما أوصى المريدون ب”الامتناع عن الجدال والتأويلات والظنون، وتجنب الخوض في الأحاديث الشخصية”، مذكّرا إياهم بأن “طريقنا أدب وستر ووفاء”.

هذه المرحلة -ما بعد رحيل الشيخ المؤسس اثارت داخل الزاوية نقاشًا واسعًا حول آليات انتقال القيادة وضوابطها الأخلاقية والعُرفية. فقد بدا أنّ إعلان الشيخ منير، وهو في ريعان الشباب، عن خلافته على عجل—ومع من آزره—خلافًا لمبدأ “العِفّة” المتّبع تقليديًا في مثل هذه المواقف، فتح الباب أمام ارتباك داخلي وتوتّرٍ في المشهد العام للزاوية.

هذا التعجّل دفع الدولة إلى أخذ مسافة محسوبة مما يجري داخل المؤسسة الصوفية، تفاديًا للإحراج المؤسّسي وتجنّبًا لاتخاذ موقف قد يُفهم على أنه انحياز لطرف دون آخر. وخلافًا للمألوف، غاب ممثلو “المخزن” عن مواكبة جنازة الفقيد، في إشارةٍ فُهمت على نطاق واسع بوصفها احترامًا لإرادة المريدين والقائمين على شؤون الزاوية، وإفساحًا للمجال أمام حلٍّ داخلي يضمن استمرارية المؤسسة وهدوءها.

سرعان ما التقطت الزاوية هذه الإشارات، لينتهي الأمر بتنازل الشيخ منير لأخيه مولاي معاذ، وفق ما جرى الإعلان عنه، حفاظًا على وحدة الصف والطريقة، وصونًا لهيبة المؤسسة وتقاليدها. وقد شكّل هذا التطوّر خطوةً تهدّئ منسوب التوتّر وتعيد التأكيد على أولوية التوافق الداخلي على حساب الطموحات الشخصية، لا سيّما في لحظات الانتقال الحسّاسة.

تكشف هذه الواقعة عن ثلاث خلاصات أساسية:

  1. سؤال العُرف والشرعية الرمزية: تَشكّل “العِفّة”—بمعناها الصوفي المؤسّسي، أي الترفّع عن الاستعجال والحرص على التواضع وضبط النفس—مكوّنًا أساسيًا في شرعية القيادة الروحية. الإخلال بهذا المبدأ يُضعف إجماع المريدين ويُربك صورة المؤسسة لدى جمهورها الواسع.

  2. حكمة المسافة الرسمية: اختارت الدولة سياسة “المسافة الآمنة” لتجنّب تحويل نقاشٍ داخلي إلى جدلٍ عموميٍّ مسيّس، ولتمكين الفاعلين داخل الزاوية من بلورة حلٍّ ذاتي يحفظ استقلالية القرار الروحي ويصون التقاليد المتوارثة.

  3. تحدّي تجديد النخب: كلما تجددت الدماء داخل المؤسسات العريقة وصعدت أجيالٌ شابّة إلى الواجهة، زادت الحاجة إلى تربيةٍ تنظيمية وأخلاقية تُوازن بين الحماسة والطموح من جهة، والالتزام بالأصول والعادات والقواعد من جهة أخرى. فالاندفاع غير المحسوب—مهما حسنت النيات—قد يخصم من رصيد الشرعية الرمزية المتراكمة عبر عقود.

إن ما حدث يمكن النظر إليه باعتباره درسًا مؤسسيًا بليغًا: تجديد القيادة مطلوب لضمان الحيوية، لكنه لا يستقيم دون ضوابطٍ أخلاقية وعُرفية واضحة، وآليات تشاور شفافة (مجلس شورى، آجال للتوافق، معايير مُعلنة للتزكية). كما أنّ حفاظ الدولة على مسافةٍ مدروسة وفّر “هوامش أمان” سمحت بإنتاج حلٍّ داخلي يضمن استمرار الزاوية ويعيد ترتيب البيت من الداخل.

في الخلاصة، أثبتت التجربة أنّ الشرعية داخل المؤسسات الروحية لا تُستمدّ من إعلانٍ سريع أو غلبة اللحظة، بل من العِفّة والتوافق واحترام السُّنن المؤسِّسة. وأنّ شباب الزاوية—وهم رصيدها للمستقبل—حين يخضع اندفاعهم لميزان الحكمة والتواضع، يصبحون الأقدر على صون الإرث وتطويره دون أن يهدّدوا تماسكه.

*مدير نشر تنوير الالكترونية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى