ثقافة و فن

جان فرانسوا كيرفيجان: ما هو المطلق في المعرفة المطلقة؟ (الجزء الثاني)

أحمد رباص – تنوير
الملاحظة الثانية، المفيدة: عندما تناول هيجل في بداية “علم المنطق”، في النص المعنون “بماذا يجب أن نبدأ العلم؟”، العلاقة بين الفينومينولوجيا والمنطق، استبدل بشكل منهجي عبارة “المعرفة الخالصة” بتلك التي جعل منها عنوانا للفصل الأخير من “فينومينولوجيا الروح”، وهذا انطلاقا من الجملة الأولى (في الطبعة الأولى لـ”مذهب الوجود”):
“من فينومينولوجيا الروح”، أو من علم الوعي، بما أن الأخير هو الروح وقد ظهرت، ينشأ الافتراض بأن المعرفة الخالصة، بوصفها الحقيقة النهائية والمطلقة لهذا الأخير، تُنتَج. المنطق علمٌ خالص، معرفة خالصة في حدودها وامتدادها”.
تشير هذه الجملة بوضوح إلى أن عبارة “المعرفة الخالصة”، التي تكررت حوالي عشرين مرة في هذا النص التمهيدي والأساسي، بالنسبة إلى مؤلف “علم المنطق”، مرادفة لما سُمي “المعرفة المطلقة” في كتاب ” فينومينولوجيا الروح “. كما تُقدم إشارة قيّمة إلى محتوى هذه المعرفة: فمحتوى المعرفة المطلقة “بامتدادها” هو المنطق نفسه كـ”علم خالص”؛ مما يُؤكد ويُفسر ما سبق أن أثبته هذا الفصل، وهو أن المعرفة المطلقة تُحدد فضاء “العلم” (الفلسفي).
لا يُعطي هيجل شروحات عن هذا التغيير في تسمية ما يُشكل نقطة انطلاق “فينومينولوجيا الروح ” والمجال الذي ينكشف فيه “الجوهر الخالص الذي يُشكل محتوى المنطق”. لكن من المعقول اعتبار أن عدم الفهم، بل وحتى السخرية التي يثيرها الادعاء المفترض للفيلسوف بامتلاك معرفة “مطلقة” أو تشكيلها، بالإضافة إلى تحفظه تجاه عاطفة المطلق، لهما علاقة بالأمر.
باختصار، كما يمكن القول، “المعرفة المطلقة ليست هي المعرفة المطلقة”. تشير عبارة “المعرفة المطلقة” إلى الأساس الذي سيُبنى عليه التأمل الفلسفي في “نسق العلم” أكثر ما تشير إلى المعرفة المفترضة بأنها كاملة ومكتملة. وبعبارة أخرى، يمكن القول إن المعرفة المطلقة تُشكل “الفضاء الاجتماعي” الذي يُمكن من خلاله التأمل الذاتي في المعرفة.
ولكن، إذا قيل لنا هكذا ما لا تكونه المعرفة المطلقة – معرفة مكتملة، كلية، وحتى شمولية – فما هي بالضبط؟ يجب ملاحظة أن فصلنا يخلو من التفاصيل حول هذا الموضوع، وإذا توقعنا أن نتعلم منه ما هي المحتويات الدقيقة التي تتكون منها هذه المعرفة بشكل إيجابي، فسنصاب بخيبة أمل. بالفعل، تتعلق المؤشرات التي تُعطى لنا بوضع المعرفة الخالصة وموقفها سواء في ما يتعلق بسلسلة الأشكال التي تشكل محتوى “فينومينولوجيا الروح” (أو، لاستحضار العنوان المقصود في البداية للكتاب الذي ما زلنا بصدد قراءته، “علم تجربة الوعي”) وفي ما يتعلق بـ “نسق العلم”، أو بالأحرى العلوم الفلسفية (المنطق، فلسفة الطبيعة، فلسفة الروح) التي يُفترض أن يشكل الفينومينولوجيا جزءها الأول.
باعتبارها “الشكل النهائي للروح”، يجب فهم المعرفة المطلقة على أنها الفضاء الخالص “للمعرفة بناءة المفاهيم”. بالفعل، بعد أن “أغلق العقل حركة تكونه بواسطة الأشكال”، “غنم عنصر وجوده-هنا الخالص، المفهوم”؛ المعرفة المطلقة، بعبارة أخرى، هي ما تجد فيها صورة أشكال العقل، التي تميز العملية الفينومينولوجية نفسها ملغاة. والآن، ما هي، من وجهة نظر الفيلسوف الفينومينولوجي (“نحن”)، السمة العامة “لتشكيل” الروح الخاصة بكل واحدة من “تجاربه”؟ إنما في كل منها نشأت فجوة بين “وعي المتعارض-مع” و”الوعي [الذي للوعي] بذاته”، بين قطبي الحقيقة واليقين، أو بعبارة أخرى بين بُعدي الموضوعانية والانعكاسية اللتين ينطوي عليهما كل فعل من أفعال العقل، باعتباره في آن واحد موجها نحو شيء يتخذه موضوعا وحاضرا أمام نفسه في كل واحدة من عملياته.
نتحدث هنا عن الموضوعانية بدلاً من الموضوعية من أجل التأكيد على التمييز الصارم الذي يضعه هيجل بين الموضوع في حد ذاته (Objekt) والمتعارض- مع (l’ob-jet) بالنسبة إلى الوعي (Gegenstand، حرفيا: ما يقف وجها لوجه)، وهذا على الرغم من حقيقة أن Gegen-stand الألمانية من الناحية الاشتقاقية هي شبه نقل للكلمة اللاتينية ob-jectum. فضلا عن ذلك، ورغم وحشيتها، فإن “الموضوعانية” تفسر بشكل أفضل المسافة التي تنمو، في الوعي المحدود، بين الذات وموضوعها، حتى لو كان هذا الأخير هو نفسه.
المعرفة المطلقة/الخالصة، كما هو تعريفها الأولي، هي ذلك الشكل من المعرفة الذي يتجاوز البنية المعاكسة للوعي، إذ هو دائما وعيٌ بشيءٍ مختلفٍ عنه وجوديا وإبيستيمولوجيا. وكما وكما ورد في “علم المنطق”، في معرض التذكير بالغاية من “فينومينولوجيا الروح” والتعليق عليها:
“يُفترض هنا مفهوم العلم المحض، مع استنباطه، لأن فينومينولوجيا الروح ليست شيئا آخر غير استنباط هذا المفهوم. المعرفة المطلقة هي حقيقة جميع أنماط وجود الوعي، لأنه […] فقط في المعرفة المطلقة يتلاشى تماما انفصال الموضوع عن يقين ذاته، وتصبح الحقيقة مساوية لهذا اليقين، تماما كما أن هذا اليقين مساو للحقيقة. لذا، يفترض العلم المحض التحرر من تناقض الوعي”.
(يتبع)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى