وجهة نظر

كفران النعمة بين غفلة الحاضر وحسرة المستقبل بقلم: هشام فرجي

الحياة في جوهرها رحلة بين العطاء والامتحان. وكل إنسان يسير في هذه الرحلة محاطًا بنعم لا تُعد ولا تُحصى؛ بعضها ظاهر في الصحة والرزق والأمن، وبعضها خفي في المحبة الصادقة، أو في السكينة التي تنزل على قلبه في أوقات الضيق. غير أن طبيعة الإنسان اعتادت على التكرار، وما اعتاد عليه صار في نظره عاديًا، حتى لو كان استثنائيًا في جوهره. ومن هنا تبدأ مأساة كفران النعمة.

ولا يعني كفران النعمة دائمًا إنكارها صراحة، بل قد يتجسد في الغفلة عنها، أو التعامل معها باعتبارها حقًا مكتسبًا. حين ينسب الإنسان ما بين يديه إلى جهد شخصي بحت، ناسياً أن وراء كل عطاءٍ يدًا إلهية خفية، يكون حينها قد وضع قدمه على طريق التفريط والكفران. وقد صوّر القرآن هذا الواقع تصويرًا بليغًا:

﴿وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلٗا قَرۡيَةٗ كَانَتۡ ءَامِنَةٗ مُّطۡمَئِنَّةٗ يَأۡتِيهَا رِزۡقُهَا رَغَدٗا مِّن كُلِّ مَكَانٖ فَكَفَرَتۡ بِأَنۡعُمِ ٱللَّهِ فَأَذَاقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلۡجُوعِ وَٱلۡخَوۡفِ بِمَا كَانُواْ يَصۡنَعُونَ﴾ [النحل: 112].

تجعلنا هذه الآية ندرك أن النعمة منظومة متكاملة من الطمأنينة والوفرة، وأن كفرانها يقلب الحال إلى ضدّه، فيتحول الرخاء إلى جوع، والأمن إلى خوف.

ومن منظور فلسفي عميق، النعمة في حقيقتها علاقة ثلاثية الأبعاد: وجود الشيء، ووعي الإنسان به، ثم حسن التصرف فيه. فالصحة بلا وعي قد تُهدر في العبث، والمال بلا تقدير قد يُنفق في غير نفع، والمحبة بلا امتنان قد تتحول إلى عبء. لذلك ليست النعمة امتلاكًا فحسب، وإنما هي وعي بالامتلاك وتقدير له.

وإنّ إدراك قيمة الشيء بعد زواله مأساة متكررة في تاريخ البشر. فكم من مريض لم يشعر بعظمة العافية إلا حين فارقته، وكم من غني لم يعرف بركة القليل إلا بعد أن خسر الكثير، وكم من شخص فقد عزيزا بسبب سوء التقدير. وهذا ما عبّر عنه الإمام علي رضي الله عنه بقوله:

«النعمة موصولة بالشكر، والشكر متعلق بالمزيد، وهما مقرونان في قرن، فلن ينقطع المزيد من الله حتى ينقطع الشكر من العبد.»

ويعد الندم يدخل ضمن العدالة الوجودية لكفران النعمة، إذ قد يظن المرء أن كفرانها فعل بلا تبعات، لكن الحقيقة أن الندم وحده يكفي ليكون عقوبة نفسية وعدالة وجودية. فالإنسان حين يفرّط، يجد نفسه أسير صورة قاتلة: صورة الغافل الذي لم يُحسن التصرّف فيما أُعطي. وهنا يصبح الندم مدرسة صارمة، تُعيده إلى جوهر الحياة. وقد عبّر الحكماء عن ذلك بقولهم: «من لم يشكر النعمة فقد تعرّض لزوالها، ومن شكرها فقد قيّدها بعقالها.» فالندم إذن ليس إلا صدى ونتيجة لغياب الشكر.

وكثيرًا ما يُختزل الشكر في كلمات عابرة، لكن جوهره أعمق بكثير. إذ يعد الشكر حالة روحية تُترجم في السلوك:

  • أن تشكر الله على الصحة، يعني أن تحافظ عليها بالرياضة والغذاء المتوازن.

  • أن تشكر الله على المال، يعني أن توظفه في الخير لا في التبذير.

  • أن تشكر الله على الحب، يعني أن تصونه بالوفاء لا بالإهمال.

وفي القرآن الكريم وعدٌ حاسم:

﴿لَئِن شَكَرۡتُمۡ لَأَزِيدَنَّكُمۡ وَلَئِن كَفَرۡتُمۡ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٞ﴾ [إبراهيم: 7].

هنا يصبح الشكر شرطًا لدوام النعمة وزيادتها، والكفران مقدمة للحرمان والعقوبة.

ومن المفارقات الغريبة أن الإنسان لا يتعلم قيمة النعمة إلا بعد فقدها. فهو يشعر بمكانة عزيز حين يفقده ويغيب، ويشعر بالدفء حين يبرد، ويكتشف قيمة العافية حين يمرض. وهذا النمط المتكرر في التجربة البشرية يعكس محدودية إدراكنا وقصر نظرنا. غير أن الحكيم هو من ينجح في تجاوز هذه المفارقة، فيعيش يقظًا ممتنًا قبل أن يفقد شيئا ما لا بعد فوات الأوان ونقطة لا رجوع.

وقد لخّص الشاعر أبو تمام هذه الحكمة حين قال:

قد يُدرِك المتأني بعضَ حاجتهِ           وقد يكونُ مع المستعجلِ الزللُ.

أما كفران النعمة في بعدها الاجتماعي، فلا يقتصر كفرانها على المستوى الفردي، بل يمتد إلى المجتمعات والأمم. فحين تتوافر للشعوب مقومات الرخاء من أمن واستقرار وموارد، ثم تُقابل بالجحود والأنانية وسوء التدبير، فإن مصيرها الحتمي هو التراجع والانهيار والزوال. والتاريخ حافل بأمثلة حضارات عظيمة انهارت لأنها لم تُحسن شكر ما أُوتيت. فالإمبراطورية الرومانية مثلًا، بلغت ذروة القوة والامتداد، لكنها انهارت من الداخل بسبب الترف المفرط، والفساد، وعدم تقدير نعمة الوحدة والاستقرار.

وكذلك حضارة الأندلس، التي ازدهرت بالعلم والفكر والعمارة، لكنها لما انشغلت بالصراعات الداخلية وتقاسمتها الممالك الصغيرة، فقدت النعمة الكبرى المتمثلة في التماسك، فكانت النهاية مأساوية.

بل إن القرآن نفسه يذكر قصة سبأ:

﴿فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٖ وَأَثْلٖ وَشَيْءٖ مِّن سِدْرٖ قَلِيلٖ﴾ [سبأ: 16]،

لتكون مثالًا خالدًا على أن الإعراض عن شكر النعمة يقلب الجنان إلى خراب.

وأخيرا يمكن القول أن كفران النعمة هو بنية فكرية وروحية تهدد كيان الإنسان والمجتمع. وهو في جوهره غفلة عن الأصل، وانقطاع عن المنبع الإلهي للعطاء. أما الندم بعد التفريط فهو حكم عادل يعيدنا إلى بوصلة الوعي. إذ أنّ النعم وديعة، والشكر هو الضمانة الوحيدة لبقائها. لذلك علينا أن نمارس الامتنان وشكر الله عليها يوميًا كأسلوب حياة. فالشكر وعي يحمي الحاضر من أن يتحول إلى ذكرى موجعة، ويمنح للحياة معناها العميق.

ولعل أجمل ما يُختتم به قول الله تعالى:

﴿فَٱذۡكُرُونِيٓ أَذۡكُرۡكُمۡ وَٱشۡكُرُواْ لِي وَلَا تَكۡفُرُونِ﴾ [البقرة: 152].

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى