يُقال إن “الإنسان ابن بيئته”، وهي مقولة تحمل الكثير من الصحة، إذ لا يمكن إنكار أثر الوسط الاجتماعي والثقافي في صياغة ملامح شخصية الفرد. فالبيئة هي المدرسة الأولى التي يتلقى فيها الإنسان لغته وقيمه وعاداته وحتى طريقة نظره للعالم. حيث إأن المجتمع بما يحمله من مؤسسات وعلاقات وأعراف، يشبه القالب الذي يصب فيه الطين الخام، فيتشكل على صورته.
غير أن خطورة هذه المقولة تكمن حين تُفهم بمعنى الحتمية المطلقة، وكأن الإنسان مجرد انعكاس آلي لبيئته، لا يملك حيلة ولا اختيار. وهنا يسقط العقل في فخ التبرير، فيصبح الفاشل ضحية أسرته، والمجرم ثمرة حتمية لمجتمع منحرف، والجاهل نتيجة طبيعية لبيئة فقيرة في الفكر والمعرفة.
لكن الحقيقة أن الإنسان ابن بيئته، نعم، لكنه ليس أسيرها. فالذي يميّز الإنسان عن باقي الكائنات هو امتلاكه الإرادة الحرة، والقدرة على تجاوز محدوديات بيئته . فالبيئة قد تصوغ البداية، لكن النهاية يصوغها الوعي والعقل والاختيار.
كم من عظماء التاريخ خرجوا من أقبية الفقر أو الجهل ليصنعوا مجدًا خالدًا، وكم من أصحاب العزوة والثروة انتهوا إلى هاوية التفاهة والضياع. فالبيئة تؤثر، لكنها لا تُعفي الإنسان الاختيار ولا تسلبه إرادته. وتدفعه ليتشكل حسب قالبها الخاص لكنها لا تُجبره على ذلك. وهنا يتجلى دور العزيمة كقوة داخلية تجعل الإنسان قادراً على مواجهة السائد في محيطه وبيئته وتغيير مساهر.
وإن من يستسلم لبيئة سلبية، ويتخذها عذرًا لفشله، إنما يُسقط من حسابه جوهر الإنسانية: القدرة على المقاومة والاختيار. فالإنسان لم يُخلق ليكون نسخة مطابقة لمحيطه، بل ليكون ذاتًا فاعلة قادرة على إعادة تشكيل محيطها إن لزم الأمر. فالبيئة قد تُعلِّمك السقوط، لكنك تملك حرية النهوض. قد تُرغمك على الصمت، لكنك قادر على الكلام. وقد تُحاصرك بالفشل، لكنك قادر على كسر الطوق بالعقل والاجتهاد والإصرار.
إذن، نعم، الإنسان ابن بيئته، لكنّه أيضًا ابن إرادته، وعقله، وعزيمته. وبين هذين البعدين – البيئة والإرادة – يُكتب مصير الفرد، فلا البيئة عذر دائم، ولا الإرادة شعار أجوف، بل هما جدليتان متكاملتان: الأولى منح المعطيات الأولية وتؤثر، والثانية قادرة على إعادة البناء والتجاوز فتحسم.
زر الذهاب إلى الأعلى