المغرب بين التحولات الإقليمية واستحقاقات المستقبل او من إدارة الأزمات إلى صناعة الثقة – مصطفى المنوزي

الحلقة الخامسة
بعد عامين من حرب غزة، وفي ظل التطورات المتسارعة للمبادرة الدولية المعروفة باسم “اتفاق السلام”، تبرز الحاجة إلى إعادة قراءة الوضع في المغرب من خلال رؤية استشرافية ترسم ملامح المستقبل وتستعد لتحدياته. فالحرب لم تكن مجرد صراع عسكري محدود، بل نقطة تحول في المشهد الجيوسياسي الإقليمي، خاصة مع تبلور “اتفاق السلام” الذي قد يعيد رسم خريطة التحالفات والصراعات. في هذا السياق، يجد المغرب نفسه أمام فرص وتحديات مصيرية تتطلب الانتقال من إدارة الأزمات إلى صناعة المستقبل.
لقد أصبح المغرب شريكًا استراتيجيًا في معادلات الطاقة والأمن الأوروبي-الأطلنطي، غير أن الرهان الحقيقي يكمن في توظيف هذه المكانة لتعزيز دوره كفاعل إقليمي مستقل وبكامل الندية المتطلبة ، لا كجسر جغرافي بين الضفتين أو حارس الحدود أو دركي المنطقة . ويتطلب ذلك تبني “دبلوماسية المراكز المتعددة”، أي بناء شراكات مرنة مع مختلف الفاعلين الدوليين — الدول الأوروبية، الولايات المتحدة، إسرائيل في إطار المصلحة المحدودة، دول الخليج، وتركيا — مع الحفاظ على ثوابت الدعم للقضية الفلسطينية ضمن رؤية سلام واقعية وعادلة.
أما على الصعيد الداخلي، فإنه على حراك الشباب الرقمي ( الشفاف ) أن يعكس فجوة متزايدة بين الخطاب الرسمي وتطلعات جيل يؤمن بالعدالة العابرة للحدود ، ولا يمكن مواجهة هذا التحول إلا بتحويل الطاقة الرقمية إلى قوة مؤسسية فاعلة. من هنا، تبرز ضرورة تنصيب المجلس الدستوري للسياسات الشبابية دائم الشراكة مع البرلمان والمجالس الجهوية، يمنح صلاحيات حقيقية في مناقشة السياسات العامة، وربطها بتطلعات السلام الإقليمي. كما يمكن تطوير منصات رقمية مؤسساتية، مثل “مرصد للرأي العام الرقمي” يتبع للمجلس الاقتصادي والاجتماعي، لتحليل اتجاهات الرأي الشبابي وترجمتها إلى سياسات عملية. وإلى جانب ذلك، يجب الانتقال من تكريس التطبيع الأمني إلى سردية جديدة للدبلوماسية الإنسانية والإعمارية، تبرز دور المغرب في دعم الشعب الفلسطيني من خلال دعم حل الدولتين ؛ وكذا المشاركة في إعادة إعمار غزة ضمن أفق استراتيجي مستدام.
وفي ما يتعلق بالموقف الرسمي، فإن تجاوز منطق إدارة التناقضات نحو بناء إجماع استراتيجي شفاف أصبح ضرورة وطنية. ينبغي ربط المشاريع الناتجة عن الشراكات الخارجية ببرامج تنموية ملموسة، من قبيل إنشاء “صندوق سيادي للتكنولوجيا الفائقة” يُموَّل من عوائد التعاون الاقتصادي ويُوجَّه لدعم الاقتصاد الشبابي والابتكار. كما تمثل الاستعدادات لتنظيم كأس العالم 2030 فرصة تاريخية لتحويلها إلى عقد اجتماعي جديد يشمل تطوير البنى التحتية والإصلاح الإداري وخلق فرص عمل مستدامة، مع ضمان مشاركة الشباب في التخطيط والتنفيذ.
أما في مجال الأمن، فإن التحذير من النهج الأمني الصرف يفقد جدواه ما لم ترافقه آليات رقابية وتشريعية واضحة. لذلك يقتضي الأمر تفعيل نموذج عملي للحكامة الأمنية يقوم على ثلاث مستويات من الرقابة: برلمانية، قضائية، ومجتمعية. وتعويض عن المجلس الأعلى للأمن الذي تصر بعض الجهات على عدم تنصيبه،ويمكن في هذا الصدد ولهذه الغاية إرساء لجنة برلمانية دائمة لمراقبة الشأن الأمني بصلاحيات مراجعة الميزانيات السرية وطلب التقارير، إلى جانب إصدار قانون إطار عام يحدد صلاحيات الأجهزة في الإستباق والتدخل ويضمن احترام الحقوق الأساسية. كما ينبغي تفعيل دور القضاء الإداري في البت في تجاوزات الأمن، ونصيب نيابة عامة متخصصة في قضايا انتهاكات حقوق الإنسان، مع حماية المبلغين والشهود. وفي المستوى المجتمعي، يتعين إقرار قانون لحماية المبلغين، وتمكين المجلس الوطني لحقوق الإنسان من وسائل حقيقية وناجعة لزيارة وتفتيش مراكز الاحتجاز ونشر تقارير علنية ومستقلة عن التقرير العام ، فضلاً عن تجويد إشراك الجامعات ومنظمات المجتمع المدني في مراصد مستقلة للسياسات الأمنية مع ضمان الحرية الاكاديمية . كما أن تطوير مناهج إدماج ثقافة حقوق الإنسان في مناهج التكوين الأمني واعتماد نظام لتقييم الأداء على أساس الالتزام بالقانون والمعايير الأخلاقية يمثلان ركيزة أساسية لأي إصلاح جاد ، وفي المحصلة، ليس التحدي بين أمن قوي ودولة ضعيفة أو العكس، بل بين نموذجين للأمن: أحدهما قائم على الخوف والانكفاء، والآخر على الثقة والمشاركة. إن مستقبل المغرب في ظل التحولات الإقليمية والدولية يستدعي جرأة تشريعية في بناء الأطر الرقابية، وإرادة سياسية لتمكين المؤسسات المستقلة، وثقة مجتمعية تُبنى عبر الشفافية والمحاسبة والمشاركة الفعلية. بهذه الرؤية المتكاملة، يمكن للمغرب أن يحول التحديات الجيوسياسية والداخلية إلى فرصة لبناء نموذج أمني تنموي إقليمي، يكون فيه الشباب شريكًا حقيقيًا في صناعة المستقبل.
يتبع


