حميد قاسمي-تنوير
في زمنٍ تتداخل فيه مفاهيم الحرية بالمسؤولية، ويغدو فيه الصدق ترفًا لا يقدر عليه إلا القليل، يأتي مشروع القانون التنظيمي الجديد المتعلق بمجلس النواب ليعيد فتح جراحٍ قديمة حول حدود الديمقراطية ومعنى الشفافية وحدود النقد المشروع. أليس من المفارقات أن تُغلَّف العقوبة بلبوس حماية الناخب والمرشح، بينما تمتد بنودها لتطال كل رأي مشكك أو صوت متسائل؟ أين هي الديمقراطية التي تتسع لنبض الشك المشروع، وتسمح بالتساؤل عن صدقية العملية الانتخابية دون أن يُرمى صاحبها بتهمة التشهير أو ترويج الأخبار الزائفة؟
لقد عرف التاريخ البشري، منذ أن خُلق الإنسان، أن التساؤل أصل المعرفة، وأن البحث عن الحقيقة لا يولد من الطاعة العمياء، بل من الشك الهادئ المتأمل. حتى القرآن الكريم، وهو كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، لم يغلق باب السؤال، ولم يُحاكم الشك حين يكون وسيلة للإيمان. ألم يقل نبي الله إبراهيم عليه السلام: رب أرني كيف تحيي الموتى، قال: أولم تؤمن؟ قال: بلى ولكن ليطمئن قلبي ؟ لقد سأل خليل الرحمن لا عن شكٍ في قدرة الله، ولكن عن طمأنينة اليقين، فهل يُعقل بعد ذلك أن يُمنع الناس من التساؤل حول نزاهة صناديق الاقتراع أو شفافية المشهد الانتخابي؟
ما أشبه اليوم بالأمس، حين يُستبدل منطق الحوار بمنطق الزجر، ويُقدَّم الخوف على الحرية باعتباره سبيلًا لحماية المصلحة العامة. كم من دولةٍ تزعم الديمقراطية، لكنها تُسكت الأقلام وتُخرس الألسن حين يقترب السؤال من عتبة السلطة. في الغرب، تُعتبر حرية الصحافة مقياسًا لصحة الديمقراطية، فها هي السويد مثلًا تتيح للصحفيين الاطلاع على الوثائق الرسمية، وتمنح المواطن حق مساءلة الحكومة بلا خوف. وفي فرنسا، تُناقش نزاهة الانتخابات علنًا دون أن يُزج بالناقد في غياهب المحاكم. أمّا عندنا، فمجرد تدوينة قد تُقرأ تأويلًا، أو كلمة تُفسَّر تشكيكًا، كافية لتفتح أبواب السجون والاتهامات.
أين هي الديمقراطية إذن؟ أهي في النصوص التي نزين بها الدساتير، أم في الواقع الذي يضيق صدراً بصرخةٍ أو رأي؟ ألسنا نحن من علّم العالم معنى الشورى والمساءلة والمحاسبة؟ كيف نطلب من المواطن أن يشارك في الانتخابات، إن كنا نخنق صوته إن تحدث أو تساءل؟ كيف نُقنع الناخب بأن صوته يصنع التغيير، ونحن نحاصره بشروط الكلام المسموح والممنوع؟
ليست الديمقراطية أن نحرس الصناديق فقط، بل أن نحرس الوعي الذي يقف وراءها. ليست الديمقراطية أن نمنع التشهير فحسب، بل أن نمنح الناس ثقة في أن آراءهم ليست جرمًا. والوعي لا ينمو تحت التهديد، ولا يثمر في أرض الخوف.
إن القانون العادل لا يُبنى على افتراض سوء النية في المواطن، بل على الثقة في قدرته على التمييز بين الكذب والحقيقة. ولعل السؤال الأصدق الذي يجب أن نطرحه اليوم: هل نريد ديمقراطية حقيقية، أم نكتفي بتلميع صورتنا أمام العالم فقط؟
وحين يصبح الشك جريمة، يصبح اليقين نفسه مريبًا؛ وحين يُجرَّم السؤال، تموت الديمقراطية بصمتٍ مهيب.
وأنا من الآن أقول — إن الانتخابات نزيهة، والمرشحين ملائكة، وخير دليل أنه لا يوجد لدينا برلماني واحد متابع ويا دنيا ما يصيبك شر