ثقافة و فن

جيل مارماس: هيجل ومغالطات العقل الخالص (الحلقة السادسة)

ترجمة: أحمد رباص ـ تنوير
أ) في القاموس المشترك بين كانط وهيغل، يُقابل “البسيط” “المركب”. في قراءة كانط للميتافيزيقيا الدوغمائية، تُشير بساطة النفس إلى “طبيعتها غير القابلة للفساد، وبالتالي الخالدة. وهذه إذن سمة ثابتة”. عند هيغل، يتميز الكائن الروحي عن الكائن الطبيعي، المكوّن من أجزاء متخارجة، بتحرره من كل محتوى ثابت وتوحيده للموضوعية المتعددة التي يرتبط بها. في المقام الأول، في الواقع، يمكن للروح أن تتحرر من كل تحديد. نجد هذا الموضوع، على سبيل المثال، في الفقرة الخامسة من “مبادئ فلسفة الحق”، حيث يُقال إن الإرادة يمكن أن تُجرّد نفسها من كل محتوى. تُستحضر هذه الإضافة المُقابلة، كمثالين، حرية الحكيم الهندوسي وإرهاب الثورة الفرنسية. يقول هيغل إن الحكيم الهندوسي يتخلى عن كل نشاط وكل هدف وكل تمثيل مُفضّلا التجربة الوحيدة لهويته الذاتية. من ناحية أخرى، يُلغي الإرهاب، من جانبه، كل مؤسسة مُحددة، وكل موهبة خاصة في نهاية المطاف. بالمثل، وفقا لإضافة من فلسفة الروح، يمثل التخلي عن الحياة بالانتحار إحدى صور هذه القدرة على التجريد:
“الذات شيءٌ بسيطٌ تماما، كوني. عندما نقول (ذات)، فإننا نعني شيئا مفردا، ولكن بما أن كل شخص هو ذات، فإننا نعني شيئًا كونيا تماما. إن كونية الذات تجعلها قادرةً على التجرد من كل شيء، حتى من حياتها”.
في مقام ثان، يوحّد العقل اختلافاته بنشاط. على سبيل المثال، وفقا للفقرة 381 من “الموسوعة”، عندما تستولي الأنا العارفة على مادة معينة، من خلال فرضيات متنوعة، تُحوّلها بأن تجعل منها تمثيلا واحدا ومتماسكا. يقطع هيجل مع تمثيل النفس غير المترابطة، لكنه يعزز تمثيل الروح الموحدة.
ب) ما رأي هيجل في موضوع الهوية الذاتية للنفس؟ لا يعتقد إطلاقا أن الروح ستبقى ثابتة، وأنها ستبقى على حالها باستمرار. لكنه يؤكد أن الروح، ككيان كوني ملموس، لا تفقد تكاملها باختلافها. فالروح تطبع كل تعديل من تعديلاتها في الكل الذي تُكوّنه، وبالتالي تحافظ عليه. مثلا، يبقى الإنسان هو نفسه، سواء كان طفلًا أو بالغا أو شيخا. وذلك لأنه، من مرحلة إلى أخرى، يُكوّن نفسه على ما هو عليه: فالتربية الفردية، التي تعني الانتقال من مرحلة حياة إلى أخرى، ليست ظاهرة طبيعية يمر بها الفرد، بل هي العمل الذي يُمارسه على نفسه. وبقدر ما يكون هو صانع كينونته، فلا يُفسده ذلك، بل على العكس، يسمح له بالتطور: “الفرد، وهو يبقى واحدا، يمر بدرجات متفاوتة من الثقافة ويبقى الفرد نفسه”. تحوله هو عمله الخاص. وحدها الروح تستطيع، في الوقت نفسه، أن تغير محتواها وتحافظ على هويتها.
في كتاب “العقل في التاريخ”، نجد نصا محيرا إلى حد ما يصر على أبدية الروح وعلى حقيقة أنها تعيش أساسا في الحاضر:
“الروح لا تنتمي إلى الماضي ولا إلى المستقبل، بل هي موجودة (الآن) بشكل مطلق. […] ما تكونه الروح الآن، كانته دائما؛ ما تكونه الآن هو مجرد وعي أكثر ثراءً، ومفهوم تبلور بشكل أعمق من تلقاء ذاته”.
فُسِّر هذا النص كما لو أن الصيرورة الزمنية للروح، عند هيجل، لا تستلزم أي تغيير حقيقي. لكن هذه القراءة تُبطلها حقيقة أن العود الأبدي للشيء نفسه، عند هيجل، تُميز الطبيعة وحدها، وهي نقيض الروح. الطبيعة كالعنقاء: إذا نهضت حتما من رمادها، فإنها مع ذلك تحتفظ دائما بنفس هيئتها. أما الروح، من ناحية أخرى، “ففي بزوغها، لا تتجدد فحسب، بل ترقى وتتحول”. لذا، هناك تغيير جوهري. ومع ذلك، في هذا التغيير، هناك أيضا بقاء للذات: ومن هنا إصرار النص المذكور أعلاه على أن “الآن” لأي شكل من أشكال الروح يُمثل تطويرا لهويتها الدائمة وليس مرحلة جديدة جذريا. قد نعترض على هيجل بأن التحول الطبيعي وحده، بمعنى التغيير الجذري للهوية، أو حتى فقدانها، هو الطفرة الحقيقية. لكن هيجل سيجيب بلا شك بأنه في غياب الهوية، لا يوجد اختبار ذاتي للتغيير، وأن هذا الأخير، إذًا، لا يستجيب إلا لظروف طارئة، مما يُفقده كل جدية. بالنسبة لهيجل، التحول الحقيقي هو ما يؤثر في الذات.
ج) على وجه التحديد، بالنسبة إلى هيجل، الروح ليست جوهرا فحسب، بل هي ذات أيضا. والمقصود بالذات هو الفاعل الذي يحول نفسه (يُخصِّص نفسه) مع الحفاظ على هويته (الكونية)، بحيث يمكنه التعرف على ذاته في هذه الخصوصية (كفرد مفرد). وإذا اتبعنا مثالًا قدمه هيجل في “الشذرة حول الروح الذاتية” (1822-1825)، ليس اللون ذاتا لأنه، في تحديده الخاص (مثل الأصفر والأزرق)، يتوقف عن كونه لونًا بشكل عام. من ناحية أخرى، الروح ذات لأنها، في أشكالها المحددة (مثل بطرس أو بولس)، تظل مع ذلك – وتعرف ذاتها – إنسانا بشكل عام. وبتعبير أدق، تدرك أن هويتها الخاصة لا تضر بهويتها العامة، بل على العكس، تشكل تحقيقها الملموس. الروح ذات لأنها تعي نفسها وهي تضع، حتى لموضوعيتها، تحديدات بها تعرف نفسها وتسمح لها بأن تعرف. الأنا، أولًا، وحدة خالصة تتجرّد من كل محتوى مُحدّد؛ وهي أيضا تحديدٌ حصريٌّ يُعارض كل تحديدٍ جزئيٍّ آخر؛ وأخيرا، هي وحدةُ العموم غير المُحدّد والمحتوى الحصري بقدر ما تنطرح كنشاطٍ لإعطاء محتوى لذاتها. هكذا تبقى حرة إزاء هذا الأخير: هي ليست “هذا الوجود في-و- لـ-ذاته إلا بالاتحاد مع الوجود-الموضوع”.
(يتبع)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى